كفالة النفس.. عبادة شاملة غفل عنها كثيرون

حين يتحدث الناس عن العبادة، تتجه عقولهم فورًا إلى الصلاة والزكاة والصوم والحج، لكن قلّ من يتفكر في عبادةٍ أخرى عظيمةٍ، وهي عبادة كفالة النفس، وتعني: رعاية النفس رعاية شاملة تستوعب احتياجاتها المعنوية والمادية، وقد دعا الإسلام إلى اهتمام المسلم بنفسه ورعايته لذاته رعاية تامة، ويظهر ذلك فيما يأتي:

كفالة النفس معنوياً

الكفالة المعنوية للنفس تعني تزويدها بالقدر الكافي من التهذيب والتزكية؛ بحيث ترتقي في معارج الكمال حتى تبلغ الدرجات العليا فيه، فهو يكفل نفسه بوقايتها من السقوط في المعصية، حتى لا تنحدر إلى الشقاء والضلال، قال تعالى: (وَلَا تُلْقُوا ‌بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: 195)، فهو يحميها من الهلاك في الدنيا والآخرة، قال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌قُوا ‌أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6).

فمن وقى نفسه من المعصية وحرص على تغذيتها بالإيمان والطاعة؛ فقد كفلها أعظم كفالة، حيث نجا من الغواية إلى الهداية، قال تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى {123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {124} قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً {125}‏ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) (طه)، وقال عز وجل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ‌فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).

فمن أعطى نفسه حقها من الرعاية والكفالة بحملها على الإيمان والطاعة فقد أحسن في حق نفسه أعظم إحسان، واستجاب لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ ‌احْرِصْ ‌عَلَى ‌مَا ‌يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ».

وفي هذا الحديث مظاهر متعددة لكفالة المسلم نفسه، حيث إنه يكفل نفسه حين يكون قوياً، سواء كانت القوة إيمانية أم بدنية، فهو يحقق أهدافه ويحمي نفسه، كما يؤكد الحديث أن من كفالة المسلم لنفسه أن يجعل حاجته عند ربه وحده، فلا يهين نفسه على أبواب الناس، بل يحفظ عزتها وكرامتها من خلال الاستعانة بالله تعالى وبذل الجهد وإن كان قليلاً، لكنه خير من الإهانة، ففي صحيح البخاري عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، ‌فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ».

وكذلك من مظاهر الكفالة للنفس أن يحرص المسلم على ما ينفعه، فلا يجلب لنفسه إلا الخير، بل لا يهلك نفسه باللوم لها على ما قدمت، إلا بقدر التوبة والعودة إلى الله تعالى، فمن فعل ذلك فقد وعده الله تعالى بالقبول والإجابة، كما وعد الله تعالى من هذب نفسه وزكاها بالفلاح، حيث قال عز وجل: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس)، وقال تعالى: (فَأَمَّا مَن طَغَى {37} وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {38} فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى {39} وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى {40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات).

كفالة النفس مادياً

الكفالة المادية للنفس تعني قيام الإنسان بتلبية حاجاته المعيشية بجهده المشروع، من غير أن يكون عالة على غيره، ومما يؤكد هذا ما أمر به القرآن الكريم من العمل والسعي لكسب الرزق، حيث قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ‌فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15)، فهو يسعى في الأرض لكفاية نفسه ومن يعول، حتى يغنيهم من فضل الله عليه.

وفي صحيح البخاري عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا ‌إِلَّا ‌رَعَى ‌الْغَنَمَ»، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ، فَقَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ»، وكذلك الصحابة الكرام كانوا حريصين على العمل والكسب من أجل كفالة أنفسهم وتأمين احتياجاتها، فعن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «‌لَا ‌يَقْعُدُ ‌أحدكم ‌عن ‌طلب ‌الرزق يقول اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي، فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ السَّمَاءَ لَا تمطر ذهباً ولا فضة»(1)، وعنه أيضاً أنه قال: «‌إِنِّي ‌لأرى ‌الرجل ‌فَيُعْجِبنِي فَأَقُول هَل لَهُ حِرْفَة فَإِن قَالُوا لَا سقط من عَيْني»(2).

كفالة النفس عبادة لا عادة

ليست كفالة النفس مطلبًا دنيويًا فحسب، بل قربة يتعبد بها المسلم لربه، لأنها تحقق شكر النعمة، فالذي يعمل بيده شكر نعمة القوة والصحة، وتُظهر التوكل الحقيقي؛ فالمتوكل لا يترك الأسباب، بل يسعى إليها بثقة ويقين، ويجعل يده عالية بالاستغناء عن الناس بل العطاء لهم، ففي صحيح البخاري ومسلم عَنْ ‌حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْيَدُ الْعُلْيَا ‌خَيْرٌ ‌مِنَ ‌الْيَدِ ‌السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ».

ولكن لماذا غفل بعض الناس عن هذه العبادة؟ لأنهم فصلوا بين العبادة والعمل، وانتشرت بينهم ثقافة الاتكال على الإعانات والمساعدات، وضعُف الإيمان بالسنن الإلهية في الرزق، وقلّ ذكر النماذج العملية التي تجسّد هذا الخلق النبيل.

أثر كفالة النفس في المجتمع

يتعدى أثر كفالة النفس إلى المجتمع، حيث تسهم كفالة النفس في تحصين الأمة من البطالة والتسول، وتعمل على تحقيق الكرامة الفردية التي ترفع منسوب العطاء لا الأخذ، كما تحيي روح التكافل الحقيقي؛ لأن من كفل نفسه كان أقدر على كفالة غيره.



 

_____________

(1) إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي (2/ 62).

(2) غريب الحديث: ابن قتيبة (2/ 54).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة