كفى لوماً للمعلم.. فلنصلح النظام

في تصريح أثار جدلًا واسعًا، نُسب إلى وكيل وزارة التعليم السعودي السابق
قوله: «ارتفاع نتيجة الطالب في المدرسة وانخفاضها في القدرات والتحصيلي يعني أن
الخلل في الفصل الدراسي والمعلم»، هذا التصريح الذي يُحمّل المعلم مسؤولية الفجوة
بين التقييم المدرسي والاختبارات الوطنية أثار ردود فعل عديدة، من بينها رد متخصص
في المناهج أكد أن الخلل لا يكمن في أداء المعلم وحده، بل في بنية النظام التعليمي
نفسه، مؤكدًا أن التعليم أشبه ببيت طيني لا تنفع معه ورق الجدران الفاخر ولا
الإضاءة الحديثة، ما دام الأساس هشًّا وغير مؤهل.
هذا الحوار التربوي الذي دار في السعودية يعكس ما يشبهه في الكويت، حيث
تكررت التصريحات التي تُحمّل المعلم نتائج نظام تعليمي مرهق بالتجريب، والمركزية
المفرطة، ومناهج لا تراعي التمايز المحلي ولا متطلبات العصر.
إن تراجع نواتج التعليم في الاختبارات الدولية لا يمكن أن يُفهم بعيدًا عن
سياسات التعليم العليا، والمناهج، وأساليب التقييم، والبنية المؤسسية، وهي جوانب
لم تُعالج بشكل جذري حتى الآن.
وفي الكويت، لم تكن الحاجة إلى إصلاح التعليم غائبة عن صناع القرار، فقد
شهدت السنوات الماضية عددًا من المحاولات الرسمية لتحديث المناهج وتطوير أساليب
التدريس، شملت هذه المحاولات تحديث الكتب الدراسية، وإدخال مفاهيم جديدة في
المناهج مثل المهارات الحياتية والتكنولوجيا، مع محاولة ربط التعليم بواقع الطالب
ومجتمعه، كما سعت وزارة التربية إلى إدخال منصات إلكترونية وطنية خلال فترة
الجائحة، وتفعيل التعلم الرقمي كبديل مؤقت.
لكن كثيرًا من هذه المبادرات واجهت تحديات التطبيق، إما بسبب غياب الرؤية
التربوية المتكاملة، أو ضعف إعداد الميدان للتغييرات، أو التبدلات الإدارية التي
أوقفت العمل ببعض المشاريع دون تقييم موضوعي أو بدائل واضحة، وفي بعض الحالات،
بقيت المناهج الجديدة على الورق بينما ظلت الممارسات الصفية تقليدية، التجربة
الكويتية تُظهر بوضوح أن الإصلاح لا يكمن في تحديث المحتوى فقط، بل في طريقة
التفكير في التعليم كمنظومة متكاملة، تحتاج إلى استقرار، وتدرج، وتدريب حقيقي،
وشراكة فاعلة بين جميع مكونات الميدان التربوي.
وللنهوض الحقيقي بالتعليم، لا بد من تحرك إصلاحي يبدأ برؤية وطنية حديثة
تُبنى على فلسفة واضحة تُعنى ببناء الإنسان القادر على التفكير، والمتسلح بالقيم،
والمهيأ للعيش في عالم متغير، ويجب أن تُدار هذه الرؤية من خلال مجلس وطني يضم
خبراء من الميدان والتخصص، ويعمل باستقلالية نسبية عن التغيرات الإدارية، ويحرص
على استمرارية السياسات التربوية.
من الضروري إعادة تصميم المناهج بحيث تتسم بالمرونة والتنوع، وتنتقل من
الحشو المعرفي إلى دمج المهارات الحياتية، والتفكير النقدي، والتعلم من خلال
المشاريع والمواقف الواقعية، مع إتاحة مساحة للتكييف المحلي للمدارس والمناطق،
لتكون المناهج معبّرة عن احتياجات المتعلمين والمجتمع، لا نسخًا مكررة لواقع لم
يعد موجودًا.
لا يمكن تجاهل دور المعلم، لكنه لا يكون محور الإصلاح من حيث اللوم، بل من
حيث التمكين، وهذا يتطلب إعادة النظر في إعداد المعلمين، من خلال رفع معايير
القبول في كليات التربية، وإخضاع المعلمين الجدد لسنة تأسيسية مهنية تشمل تدريبًا
ميدانيًا واختبارات تأهيل، ثم توفير بيئة تطوير مهني حقيقية ترافقهم طوال المسيرة،
وتجعلهم شركاء في التخطيط لا مجرد منفذين.
الأنظمة التقييمية تحتاج هي الأخرى إلى تحول شامل، فاختبارات الورقة والقلم
التقليدية لم تعد كافية لقياس تعلّم حقيقي، لا بد من تنويع أدوات التقييم لتشمل
المشاريع، والملفات الرقمية، والتقييم الذاتي، والمقابلات الشفهية، والعروض، مع
مراجعة اختبارات القياس الموحدة بحيث تتحول إلى أدوات تشخيصية تقدم تغذية راجعة
للطالب والمعلم والمدرسة، لا أدوات فرز تقليدية.
التعليم الرقمي يجب أن يصبح خيارًا إستراتيجيًا لا مجرد رد فعل ظرفي، وذلك
بإنشاء منصات وطنية تعليمية متكاملة، تربط المحتوى بالمناهج، وتدرب المعلمين على
استخدامها، وتمنح الطلاب فرصة التعلم الذاتي، وبناء المسار الخاص بهم وفق
إمكانياتهم واحتياجاتهم.
كما أن ربط التعليم بالحياة الواقعية وسوق العمل لم يعد ترفًا، بل ضرورة، إدماج
المهارات الحياتية، كريادة الأعمال، وإدارة الذات، والثقافة المالية، ومهارات
التواصل، يجب أن يكون جزءًا من التجربة التعليمية اليومية، التعليم الفني والتقني
يجب أن يستعيد مكانته، وأن يُعاد تصميمه ليواكب التخصصات المطلوبة في سوق العمل
المحلي والإقليمي.
وقبل تعميم أي سياسة أو مبادرة، من المهم اختبارها على نطاق محدود وقياس
أثرها، ثم توسيعها بناءً على نتائج حقيقية، لا على الانطباعات أو الضغوط الإعلامية،
وهذا يستلزم التعاون مع منظمات دولية محترفة، تملك أدوات تحليل وتقويم دقيقة، مثل «OECD»، و«اليونسكو»، و«البنك الدولي»،
و«educause»، لضمان أن الإصلاح لا يسير في فراغ.
إن الخطاب الذي يُحمّل المعلم كل الإخفاقات قد يُرضي العناوين، لكنه لا
يصنع تعليمًا، الإصلاح الحقيقي يبدأ من التشخيص العلمي، ومن الاعتراف بأن المعلم
يعمل في ظروف يصعب فيها أن يكون فاعلًا ما لم يُدعَم، ويُقدَّر، ويُعطى صلاحياته
الكاملة، لقد أثبتت التجارب أن النظم التي نهضت تعليميًا لم تبدأ بلوم المعلمين،
بل ببناء منظومة حديثة وثابتة جعلت من المعلم شريكًا لا كبش فداء، التعليم لن
يتطور بإلقاء التهم، بل ببناء الجسور نحو المستقبل.