صحيح القصص النبوي (1)

كنز القناعة المخبوء في جرة الذهب

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اشترى رجلٌ من رجل عقاراً، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جَرَّة فيها ذهب، فقال الذي اشترى العقار للبائع: خذ ذهبك، أنا اشتريت منك الأرض، ولم أشتر الذهب؛ وقال الذي باع له الأرض: إنما بعتُك الأرض وما فيها؛ فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدُهما: نعم؛ وقال الآخر: لي جارية؛ أي بنت؛ قال: أنكحا الغلام الجارية، وأنفقا على أنفسهما». (رواه البخاري)

الأمانة خلق نبيل، صبغت به القلوب الصافية، وجبلت عليه الأرواح الطاهرة، فهي حفظ الحقوق عن الضياع، ومخالفة هوى النفس عن الانصياع، وعندما تمزج الأمانة في القلب مع الورع، ينتج عنهما القناعة والرضا.

وقد حكى النبي صلى الله عليه وسلم قصة رجلين ممن كان قبلنا من الأمم باع أحدهما لصاحبه أرضاً، فوجد المشتري في عمق الأرض كنزاً، فما مد عينيه إلى ما وجد من ذهب، بل حمل الكنز وإلى بائع الأرض قد ذهب، فقال: هذا مالك وحلالك الذي لك الله قد وهب.

ثم تنحى عنه مسرعاً، وعلى قمة جبل الأمانة جلس متربعًا، إذ كان على رد الحق لصحبه متطلعاً.

أما البائع، فقد كان صقراً محلقاً في سماء الورع متألقاً، فقال لصاحبه مؤكدًا ومدققاً: «إنما بعتك الأرض وما فيها».

فما أحوج البشرية المعاصرة إلى أمانة البائع ونزاهة من اشترى وورع المجتمع عن أخذ ما لا يحق له من حقوق الورى.

الدروس المستفادة من القصة

أولاً: الأخلاق النبيلة تصنع أحداثاً تُروى عبر القرون:

يحكي النبي صلى الله عليه وسلم قصة مدادها النزاهة، وسطورها الأمانة، وكتابها الورع والقناعة لرجلين ماتا قبل زمانه بقرون، في لمحة صادقة تخبرنا أن الأجساد قد تموت، لكن الأخلاق العظيمة والمواقف الناصعة تبقى أبد الدهر لا تموت، بل تتحول إلى ميراث قيمي تربوي تتوارثه الأجيال على مر العصور.

فالمرء يعرف بالجمائل بعده       فارفع لنفسك بالجمال بناءَ

واعلم بأنك سوف تذكر مرة      فيقال أحسن أو يقال أساءَ

ثانياً: بين كنز القناعة وكنز الذهب:

القناعةُ كنز لا يفنى، والذهب كنز يفنى، والمؤمنُ العاقل هو مَن يقنَع ولا يطمع، ويَتورَّعُ عن الحرامِ ولا يتسرع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أفلَح من أسلَمَ، ورُزِقَ كَفافًا، وقَنَّعه اللهُ بما آتاه» (رواه مسلم).

فالقناعةُ هي الرِّضا بما دونَ الكفايةِ، وتَركُ التَّشوُّفِ إلى المفقودِ، والاستغناءُ بالموجودِ. (1) 

وفي هذه القصة تلمع جواهر القيم النبيلة، والأخلاق الجليلة في بريقٍ يفوق بريق الذهب، فالبائع والمشتري ما تعلقت قلوبهما بما في الجرة من المال، بل تعلقت بالحق والكسب الحلال، فكان كلٌّ منهما يدفع بقناعته الكنز عن نفسه، وكأن الذهب في عينيه تراب مهين، والقناعة كنز براق ثمين.

إن العبدَ القنوع هو الغنيُ حقًا، وإن لم يملك من حطام الدنيا شيئاً، فليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس، ولذا أوصى سعدُ بن أبي وقَّاصٍ ولده قائلاً: «يا بُنَيَّ، إذا طلَبْتَ الغِنى فاطلُبْه بالقناعةِ؛ فإنَّه من لم يكُنْ له قناعةٌ لم يُغْنِه مالٌ» (2)

ومن جميل ما نسب إلى إبي الحسنين علي رضي الله عنه:

دعِ الحِرصَ عَلى الدُنيا     وَفي العَيشِ فَلا تَطمَع

وَلا تَجمع مِنَ المالِ         فَلا تَدري لِمَن تَجمَع

فَإِنَّ الرِزقَ مَقسومٌ         وَسوءُ الظَنِّ لا يَنفَع

فَقيرٌ كُلُّ مَن يَطمَع        غَنيٌّ كُلُّ مَن يَقنَع

ثالثا: الطمع يقطع العلاقات ويدمر المجتمعات:

فلو تمسّك البائع والمشتري بالذهب، وادعى استحقاقه لنفسه دون غيره لانقلب الخير شرًّا والنعمة نقمة، ولأصبح المال سبب الدمار والوبال، فالطمع في مثل هذه الأحوال مذموم، قال تعالى: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [ص: 24]. لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ: بدافع الطمع والحرص وحب التكاثر بالأموال التي تميل بذويها إلى الباطل والطغيان إن لم يتولّهم الله بلطفه.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ذِئبانِ جائعانِ أُرْسِلا في غنَمٍ ، بأفسدَ لَها من حِرصِ المَرءِ علَى المالِ والشَّرَفِ لدينِهِ)

فالمقصود: أن الحرص على المال والطمع فيه من أكثر الأسباب التي تفسد الود وتقطع العلاقات، وتوقع الضغائن بين الناس.

رابعاً: وفي التحاكم إلى الحكماء خير:

ففي حكم القاضي تجلت حكمةٌ رَضِيَّة؛ إذ صرف الخصومة إلى مصاهرة، والذهبَ إلى ألفة وعلاقة طاهرة، فأثمر الخلافُ أسرةً جديدة ولم يُثمر شقاقًا.

وفي حكم القاضي الحكيم رسالتان ظاهرتان؛ الأولى: حين تطهر النفوس من داء الأنانية، وتنقطع القلوب عن حب الدنيا الفانية، يصير الخلاف بابَ مودة، ويغدو المال خادمًا للإنسان لا سيدًا عليه.

الثانية: إلى حكماء وقضاة الأرض، ألا تشعلوا الخلاف وتوسعوا الفجوة بين المتخاصمين، بل قربوهم واسعوا إلى بناء الجسور لا إلى هدمها، وإلى جمع الناس لا تفريقهم.

وأخيراً: مسألة فقهية لا بد منها

لو أن شخصاً اشترى من غيره عقارًا فوجد فيها كنزاً من المال، فلمن يؤول هذا الكنز؟

الجواب: إما للمالك الأول، أو للمشتري، أو لمن عثر عليه كائناً من كان، وإليك التفصيل:

- إن كان الكنز الذي عثر عليه به ما يدل على أنه من أملاك بائع العقار فهو له أو لورثته بلا خلاف، لأن البيع لا يشمل إلا العقار فقط دون ما سواه من متعلقات البائع.

- وإن كان الكنز من دفن أهل الإسلام، وبه ما يدل على ذلك، فهو لقطه، تسري عليه أحكامها.

- أما إن كان الكنز المعثور عليه من دفن أهل الجاهلية، وقد بدت عليه رسومهم وكتاباتهم؛ فالجمهور على أنه لبائع الأرض أو لورثته لا للمشتري.

- وذهب أحمد -في رواية- وأبو يوسف وبعض المالكية إلى أن الركاز الباقي بعد الخمس للمالك الأخير؛ لأن الركاز لا يملك بملك الأرض لأنه مودع فيها، وإنما يملك بالظهور عليه، وهذا قد ظهر عليه فوجب أن يملكه.

- وقال أبو يوسف، وأبو ثور: الباقي لمن وجد وعثر عليه كما لو كان في أرض غير مملوكة. (3)

لقد بقيت هذه القصة في الصحيحين؛ لأنها أنموذج رائق لمجتمع مثالي راقٍ يريده الإسلام، ويسعى إلى إقامته بين الأنام، مجتمع تسبق فيه الأخلاق القوانين، وتُحكم فيه المبادئ والقيم قبل الأوراق والمناصب.


اقرأ أيضا:

القناعة كنز لا يفنى

البحث عن الرضا في عالم الرفاهية

===============

الهوامش

(1)- معجم مقاليد العلوم، السيوطي.

(2)- تاريخ دمشق، ابن عساكر.

(3)- باختصار من الموسوعة الفقهية الكويتية

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة