كيف استغل الكيان الصهيوني فوضى المنطقة لإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط؟

على مدى العقود الماضية، كان مشروع الرؤية الصهيونية لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط صرحاً من خيال، لكنه نما! لم يكن هذا المشروع مجرد طموح جغرافي أو سياسي، بل كان يسعى إلى تحقيق هيمنة إقليمية ودولية مستدامة.

منذ تأسيسها، أدركت «إسرائيل» أن بناء علاقات إستراتيجية مع القوى الكبرى السبيل لضمان هذه الهيمنة، وعلى رأس تلك القوى كانت الولايات المتحدة، التي وفرت لـ«إسرائيل» الدعم المادي والدبلوماسي، فضلاً عن الحماية من المساءلة الدولية.

مع التحولات التي شهدتها المنطقة بعد «الربيع العربي» في عام 2011م، تغيرت الخارطة السياسية في العديد من الدول العربية، حيث شهدنا انهيار أنظمة، واندلاع حروب أهلية، وتفشي التحديات الداخلية والخارجية، هذه التحولات لم تؤثر فقط على موازين القوى في المنطقة، بل أحدثت تغييرات جذرية في العلاقات بين الدول العربية نفسها، وأيضاً في مواقفها تجاه «إسرائيل»، بعض الدول التي كانت مناوئة لـ«إسرائيل» بدأت تدريجياً في تطبيع علاقاتها معها، مدفوعة بتغير أولوياتها الأمنية والسياسية والاقتصادية، الأولويات التي كانت تركز على مواجهة «إسرائيل» سابقاً تحولت الآن إلى تهديدات داخلية وإقليمية كالإرهاب والنفوذ الإيراني؛ مما دفع بعض الأنظمة إلى التقارب مع «إسرائيل»، بدلاً من التركيز على القضية الفلسطينية.

هذه التحولات الإقليمية ساهمت في تهميش القضية الفلسطينية وإضعاف الموقف العربي الذي كان يتميز في الماضي بوحدة الصف في رفض «إسرائيل»، التطبيع الذي كان يتم في السابق بسرية تامة أصبح الآن علنياً ومتزايداً، مما مكّن المشروع الصهيوني من التقدم بخطى ثابتة نحو تحقيق أهدافه، «إسرائيل» لم تعد تعتمد فقط على الدعم الأمريكي والغربي، بل أصبحت تستفيد بشكل أكبر من التراجع الملحوظ في الموقف العربي.

على الجانب الإعلامي، نجحت «إسرائيل» في استغلال التراجع العربي لتوسيع نفوذها على المستوى الإعلامي في المنطقة، الإعلام العربي الذي بدأ يناصر «إسرائيل» أصبح أداة فعالة في تجنيد وتحفيز الشباب العربي على تقبل السرديات المؤيدة للتطبيع، يُقدَّم هؤلاء الشباب كأمثلة لجيل جديد يرى في السلام مع «إسرائيل» مصلحة مشتركة، ويتم منحهم منصات إعلامية كبيرة لتسويق هذه الفكرة، مما يضفي شرعية على الأنظمة والدول الغربية التي تدعم التطبيع، عبر الإيهام بوجود مد شبابي يدعو لهذا التطبيع، هذا النوع من الإعلام لا يقتصر فقط على الترويج للتطبيع، بل يعمل على تلميع صورة «إسرائيل» وتقديمها كدولة معتدلة تبحث عن السلام، بينما يتم تشويه صورة المقاومة الفلسطينية.

إلى جانب التفوق العسكري والدبلوماسي، تؤدي «إسرائيل» دورًا متزايدًا في الاقتصاد الإقليمي، حيث تسعى من خلال التفوق التكنولوجي إلى بناء جسور جديدة مع دول المنطقة، الشركات «الإسرائيلية» أصبحت في طليعة الابتكار في مجالات التكنولوجيا الزراعية والأمن السيبراني؛ ما يجعل التعاون معها مغريًا للدول التي تواجه تحديات في هذه المجالات، إضافة إلى ذلك، تُغرق الأسواق العربية وشمال أفريقيا بمنتجات «إسرائيلية» تحت غطاء ما يسمى العلامة البيضاء (White Label)، حيث يتم استخدام شركات في الدول العربية لإعادة تغليف هذه المنتجات وتصديرها على أنها منتجات محلية، هذا التعاون يعزز من تأثير «إسرائيل» في المنطقة ويكرس رؤيتها للهيمنة.

كما أن «إسرائيل» تؤدي دورًا محوريًا في رسم خرائط الطاقة في شرق البحر المتوسط، حيث وقّعت اتفاقيات مع دول مثل قبرص واليونان لتطوير حقول الغاز الطبيعي، ومن خلال هذه التحالفات، تستطيع الاستفادة من اكتشاف وتطوير هذه الحقول لتعزيز مكانتها كلاعب في سوق الطاقة الإقليمي، ومع أن التأثير «الإسرائيلي» قد يكون نسبيًا مقارنةً بالدول الكبرى في سوق الطاقة، فإن هذا التعاون يمنحها نفوذًا متزايدًا في ملفات الطاقة الإقليمية؛ ما يعزز قدرتها على التأثير في بعض قرارات المنطقة.

ومن بين الأدوات الرئيسة التي تعتمد عليها الرؤية الصهيونية لتبرير وجودها وتوسعها، تقوم «إسرائيل» بحملات إعلامية منظمة لتضخيم أو اختلاق روايات حول الفظائع التي يُزعم أن الفلسطينيين ارتكبوها، مثل القصة التي رددها الرئيس الأمريكي جو بايدن، ومعه عدد كبير من وسائل الإعلام الأمريكية وأعضاء في الكونغرس، مدعيًا أنه شاهد فيديو يُظهر «حماس» وهي تفصل رؤوس الأطفال عن أجسادهم، التي تبين لاحقاً أنها غير حقيقية، هذه الروايات تُستخدم كذريعة لتبرير الهجمات العسكرية على غزة وتغطية حجم الدمار الذي تسببت فيه العمليات العسكرية «الإسرائيلية»، الإعلام الغربي، وخاصة الأمريكي، مارس دورًا محوريًا في نشر هذه الروايات، رغم أن بعض هذه القصص قد تم دحضها لاحقًا، الهدف الرئيس من هذه الروايات الحصول على دعم شعبي وسياسي واسع لـ«إسرائيل»، مما يسهم في تخفيف حدة الانتقادات الدولية التي قد تواجهها بسبب ممارساتها العسكرية المفضية إلى قتل عدد كبير من المدنيين العزل.

علاوة على ذلك، فإن «إسرائيل»، بفضل الآلة الإعلامية القوية والمدعومة دولياً، نجحت في قلب السردية بحيث أصبحت هي الطرف الذي يدافع عن نفسه، في حين يتم تصوير الفلسطينيين كعقبة أمام تحقيق السلام، هذه السرديات لم تقتصر على الإعلام الغربي فقط، بل وجدت طريقها أيضاً إلى بعض المنابر الإعلامية العربية التي أصبحت تروج لما يسمى بالواقعية السياسية أو التعاون الأمني، وهو ما يسهم بشكل أكبر في تهميش القضية الفلسطينية وإضعاف الروابط التي كانت تربط الشعوب العربية بالقضية.

ولا يمكن إغفال الدور الذي تمارسه الأجهزة الاستخباراتية «الإسرائيلية» في بناء تحالفات غير معلنة مع عدد من دول المنطقة، قدرة «إسرائيل» على جمع المعلومات الحساسة واستغلالها لصالحها مكنتها من تعزيز نفوذها في ملفات إقليمية حساسة؛ ما يجعلها شريكًا غير مباشر لبعض الأنظمة في محاربة ما يسمى بـالتهديدات المشتركة.

كما أن «إسرائيل» أثبتت قدرتها على استغلال الأزمات الإقليمية لصالحها، من خلال مراقبة الفوضى في دول مثل سورية وليبيا واليمن، تعمل «إسرائيل» على تعزيز موقفها الأمني والعسكري في المنطقة، بما في ذلك توسيع نفوذها عبر تحالفات غير تقليدية أو من خلال التدخلات العسكرية المحدودة، هذا يعزز رؤيتها للتحكم في مسار الأحداث في الشرق الأوسط، مع ضمان عدم تعرضها لأي تهديدات مباشرة.

ولا يقتصر النفوذ «الإسرائيلي» على المنطقة فقط، بل يمتد إلى الساحة الدولية من خلال اللوبيات القوية التي تضغط على الحكومات الغربية لدعم «إسرائيل»، هذا الدعم ليس فقط عسكريًا أو ماليًا، بل يتمثل أيضًا في التأييد غير المشروط لمواقف «إسرائيل» في الأروقة الدبلوماسية، هذه الإستراتيجية تعزز من قدرتها على تشكيل السياسة الإقليمية والعالمية بما يتناسب مع أهدافها الصهيونية.

ما يثير القلق هو وجود بوادر بسيطة لكنها مخيفة لتأثير هذه السرديات على الأجيال الجديدة في العالم العربي، جيل الشباب، خاصة طلاب الجامعات والخريجين الجدد، أصبح أكثر عرضة للتأثر بهذه الروايات المضللة بسبب انخراطهم في أنشطة المجتمع المدني التي تديرها سفارات أجنبية، مما يسهم في تغييبهم عن حقيقة الاحتلال «الإسرائيلي» لفلسطين، هذا الجيل يتبنى تدريجيًا وجهات نظر تختلف عن مواقف الأجيال السابقة، ويصبح أكثر تقبلاً لفكرة التطبيع تحت مسمى مشروع السلام.

في النهاية، يبقى السؤال الأساسي: إلى أين يتجه الشرق الأوسط في ظل هذه التحولات؟ المؤكد أن المشروع الصهيوني يسير بخطى ثابتة نحو تحقيق أهدافه، مستغلاً تواطؤًا دوليًا وإقليميًا غير مسبوق، بينما لا تزال فلسطين تقاوم، القضية الفلسطينية ليست مجرد قضية حدود أو نزاع على أرض، بل هي معركة وجودية من أجل العدالة والكرامة.

_______________________

رئيس مركز ريكونسنس للبحوث والدراسات، عضو نادي الصحافة الوطني في واشنطن.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة