كيف السبيل إلى ترشيد فتاوى النوازل السياسية؟

لم يعد لدعاوى الفصل بين الدين والسياسة وجه مقبول؛ بعد الكساد الذي مُنيتْ به بضاعة العلمانيين الأقحاح، بسبب مناقضتها المباشرة للخطاب الشرعيّ المحكم، وكعادة الباطل إذا عجز عن المواجهة الصريحة بدأت العلمانية تتخذ صورة أقلّ صفاقة وإن كانت أكثر سماجة، فجاء الطرح الحداثيّ الذي تبناه فيما بعد بعض المنسوبين للدراسات الإسلامية إنْ بصدق أو بكذب، هذا الطرح انطلق من رؤية غربية للتراث الإسلاميّ، وعلى التوازي مضى -وإنْ في الاتجاه المعاكس- طرح يجدر أن نسميه بالطرح «المتسلفن»؛ لأنّه تزيّا بالسمت السلفيّ وإن جاء في حقيقته مناقضاً لأصوله ومناهجه.

كلا الطرحين أبْعَدَ النجعة ونَأَى عن نهج الاعتدال؛ لأسباب يُسند جلُّها إلى علل نفسية بعيدة عن المنهج العلميّ، وهذه لا حيلة لنا فيها، والقليل منها يرجع إلى أخطاء منهجية في استمداد التصور الإسلاميّ للسياسة والحكم، فما منطلقات الفهم القويم والتنزيل السليم للفقه السياسي الإسلاميّ؟ وكيف من خلال هذه المنطلقات نعالج النوازل؟


معالم الإفتاء الراشد في نوازل السياسة الشرعية |  مجلة المجتمع الكويتية
معالم الإفتاء الراشد في نوازل السياسة الشرعية | مجلة المجتمع الكويتية
اهتم الصحابة وجيل السلف بفقه السياسة الشرعية منذ...
mugtama.com
×


يخطئ كثير من الباحثين في الفقه السياسي الإسلامي عندما يذهبون مباشرة إلى كتب السياسة الشرعية التراثية؛ فيعولون عليها في تصور السياسة في الإسلام سواء على مستوى نظم الحكم أو على مستوى الممارسة السياسية، مثل: «الأحكام السلطانية» للماوردي، ولأبي يعلي، و«غياث الأمم» للجوينيّ، و«تحرير الأحكام» لابن جماعة.. وغيرها، فهذه الكتب على أهميتها وجلالة قدر كاتبيها لا تصلح إلا لأن تأتي لاحقاً لاستكمال التصور بالاطلاع على بعض الاجتهادات التي استحدثها هؤلاء العلماء الأجلاء؛ وذلك لأنّ كثيراً من المفاهيم الرئيسة وقع لها تغيير غير متعمد، فرضته النقلة المفاجئة والمربكة في الأوضاع السياسية، كمفهوم الاستخلاف ومفهوم التغلب والمفاهيم المرتبطة بالبيعة وبالسمع والطاعة لولاة الأمر، مثّلَتْ هذه النقلة السريعة جسراً شديد الانزلاق مَرَّرَ مصطلحات قديمة بعد تفريغها من مضمونها.

العاصم من الانحراف لن يكون إلا بالرجوع أولاً لجذور الفقه السياسي الإسلامي.. الكتاب والسُّنة

والعاصم من الانحراف لن يكون إلا بالرجوع أولاً لجذور الفقه السياسي الإسلامي بشكل مباشر، هذه الجذور تتمثل في الكتاب والسُّنة والسيرة العملية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، هذه هي الجذور الحقيقية التي أنبتت الشجرة العملاقة، فمنها عرفنا الشورى والبيعة وسلطان الأمة وسيادة الشرع المعظم، ومنها عرفنا كيف يتم تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وكيف تنشأ الدولة وكيف تمارس عملها، ومنها عرفنا علاقة الدولة في الإسلام بغيرها من الدول سلماً وحرباً.

ولا ريب أنّ سُنة الخلفاء الراشدين، ولا سيما في السياسة والحكم، حجة يجب العمل بها، وقد دلنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة، منها حديث العرباض بن سارية، ثم بعد ذلك يعرج الباحث على كتب الفروع الفقهية وكتب التفاسير وكتب شروح الأحاديث، قبل أن يذهب إلى كتب السياسة الشرعية التراثية.

فهم الواقع صمام الأمان:

كثيراً ما يتردد بين المثقفين في الفقه والأصول عبارة «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، وهي عبارة ثابتة وصحيحة، فإذا كانت منطبقة على الوقائع الفردية فإنّها من باب أولى تنطبق على النوازل العامّة، فلا بدّ من تصور النازلة التي حلّت بالمسلمين في الميدان السياسيّ، وهذا لا يتسنى لأحد بعيد عن الواقع متجاهل له.

لفهم الواقع فهماً صحيحاً قواعد أهمها الاعتماد على المعلومة من مصدرها المعتمد لا على الوسائل الشائعة

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفهم الواقع المحلي والإقليمي والدولي على أكمل وجه، ليس أدلّ على ذلك من سلامة قراراته ودقتها ومناسبتها لكل موقف مرّت به الأمة في عهده، وقد نزل القرآن يلفت أنظار المسلمين إلى أهمية الحرب القائمة بين الفرس والروم، التي غُلِبَ فيها الروم في الجولة الأولى ثمّ غَلَبوا في الثانية، وكيف أنّ هاتين الحربين شغلتا القوتين العظميين آنذاك ووفرت هامشاً للدولة الإسلامية الوليدة لتنطلق انطلاقتها الأولى، ولعل ذلك هو المقصود من قوله تعالى: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ) (الروم).

ولفهم الواقع فهماً صحيحاً قواعد وأسس، أهمها الاعتماد على المعلومة الآتية من مصدرها المعتمد، لا على الوسائل الشائعة ولا سيما التي عرفت بعدم موثوقيّتها، وعدم التفسير بالأمانيّ التي تتحكم في الباحث، والتحرر من قيود الهزيمة النفسية وأغلال الانبهار بقوة الغالب، والتزام الموضوعية في تفسير الظواهر.

السنن الإلهية قوانين تحكم العمران البشريّ:

إذا اجتمع الفقه الشرعي الصحيح المستمد من جذوره مع الفهم الصحيح للواقع، فقد توفرت قاعدتا المثلث الذي ينظم عملية التنزيل والتأويل، أمّا رأس هذا المثلث فهو السنن الإلهية، السنن التي أودعها الله تعالى في الحياة الإنسانية؛ لتحكم العمران البشريّ مثلما تحكم قوانين الفيزياء والفلك هذا الكون العملاق.

من هذه السنن سنة التدافع: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ) (البقرة: 251)، وسُنة التداول: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: 140)، وسُنة التمحيص: (وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 141)، وسُنة التمييز: (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (آل عمران: 179)، وغيرها، ومن سماتها أنّها ثابتة ومطّردة، قال تعالى: (سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً) (الإسراء: 77)، (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 62).

إذا اجتمع الفقه الشرعي الصحيح مع فهم الواقع ومراعاة السُّنن الربانية في الكون.. فذاك هو الفلاح

ومن شأنها كذلك العموم والتجرد وعدم المحاباة؛ قال تعالى: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) (النساء: 123)، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الزمر: 65).


مقاصد السياسة الشرعية وغاياتها |  مجلة المجتمع الكويتية
مقاصد السياسة الشرعية وغاياتها | مجلة المجتمع الكويتية
فما حققت من السياسات مصلحة للأمة، أو دفعت عنها مفسدة فهي داخلة في إطار السياسة الشرعية، وما لم تحقق منها مصلحة للأمة أو لم تدفع عنها مفسدة فليست من السياسة الشرعية في شيء
mugtama.com
×


وقد اضطرب أداء المعنيين بالتغيير على مستويات عديدة، كان من أهمها مستوى التعامل مع السنن، حيث وقع الارتباك في التعاطي معها؛ فلم نفلح في استثمارها ولم نفلت من وقع صرامتها وحسمها، فنحن -مثلاً- نحسن الانتظار ونتقن التشوف لما تطويه الأقدار، ننتظر أخذ الله للظالمين المجرمين، لكنّنا -فقط- لا نرى سوى ذلك الجانب السببي منها، وهو أنّ الطغيان سبب للأخذ من الواحد الديّان، وأنّ من طغى وتمادى في طغيانه فهو تحت طائلة الأخذ الشديد بموجب السُّنة الجارية الماضية، لكنّ تنفيذ هذا الحكم الذي قضت به هذه السُّنة قد يأتي عن طريق سُنة أخرى جارية وهي سُنّة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)، فأين فعلنا الذي يتوقف عليه عمل هذه السُّنة؟ هذه بعض المنطلقات لحسن التعاطي مع النوازل والمستجدات في الميدان السياسي، والله المستعان.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة