كيف تتخذ قرارات رشيدة؟ ميزان دقيق بين الشرع ورغبات النفس

يعيش الإنسان المعاصر حالة مستمرة من اتخاذ القرارات؛ قرارات صغيرة تتكرر يوميًا، وأخرى مفصلية تُشكِّل مسار حياته كله، وبين ضغط الواقع، وسرعة الإيقاع، وتكاثر الخيارات، يضيع كثير من الناس في مفترق الطرق: أيُّ طريقٍ هو الأَولى؟ وأيُّ اختيارٍ هو الأَصوب؟ وهل كل ما نلتزمه اليوم هو حقًا مما ألزَمنا الله تعالى به، أم هو محض عرفٍ أو ضغطٍ اجتماعيٍّ أو تفضيلٍ شخصيٍّ لبس لبوس الضرورة؟

إن الإشكال الحقيقي لا يكمن في كثرة الخيارات بحد ذاتها، بل في غياب الميزان الذي تُوزن به تلك الخيارات، وهذا الميزان –للمسلم– لا يكون إلا بالعلم الراسخ بالشرع، الذي يبيِّن الحدود، ويكشف المساحات المشروعة، ويضبط التفضيلات الشخصية حتى لا تتحول إلى أوهام مُلزِمة أو طغيانٍ على حق الله تعالى في التشريع والتكليف.

أولًا: معرفة الفرق بين الحدود الشرعية والمساحات المشروعة:

فلنأخذ شاغلًا من شواغلنا في الدنيا: كسب المال أو ادّخاره، ونمثّل لحدوده ومساحاته بالرسم التالي:

 


  • يبدأ الرسم بالحدّ المشروع في تحصيل المال، وهو الكسب من حلال (وقد يصير واجبًا بحسب ظروف معينة).
  • وينتهي بحدّ الحرام، وهو الكسب من سُحْت مهما قلّ مقداره، كرشوة أو اختلاس أو سرقة أو ربا.
  • وبينهما مساحات من مختلف الأحوال المالية، قد تكون مكروهة أو مستحبة أو مباحة، بحسب حال صاحب المال وتصرفه فيه.
  • ويمكنك أن ترى كذلك كيف أن مواقعة الحرام تسبقه خطوات قد لا تكون بذاتها محرّمة، بل قد يكون منها مباح أو مندوب بحسب مقاصد صاحبه.
  • وإذن، بدون العلم بأحكام وآداب تلك التدرجات المالية التي لا ريب تعرض لكل مسلم، كيف تصحّ معاملاته المالية؟
  • وبغير فهم ومراعاة تلك الأقدار والضوابط، سيقع صاحبنا لا محالة في فوضى الحركة، وتخبط التجارب، والسعي المحموم، بحصيلة هزيلة بعد كل ذلك!

وحتى يتعمق إدراكنا لخطر الجهل بالحدود الشرعية، فلنتفكر في هذه الأسئلة التي يشكّل جوابها أزمة لدى كثير من المسلمين، مع أنّ ضوابطها كلها بيّنة في شرع الإسلام:

  • كيف تحدد طموحك المالي في الحياة؟ وهل يتوجب عليك أن يكون لك طموح مالي أصلًا؟ أم غاية ذلك أنه مباح لا فرض؟
  • وكيف تعرف ما الأصلح في حقك بين أسباب الكفاية والاقتصاد والرفاه؟
  • وهل يتوجب أو ينبغي أن تسعى للادخار أم تقنع بالكفاية؟ وما مدى الادخار أو حده حين تتطلع له؟
  • ومتى يكون التكسب واجبًا أو مستحبًا أو غير ذلك؟ وهل يختلف الحكم في حق الذكر عن الأنثى؟
  • هل للوالدين أو أحدهما حقّ فيما يكسبه الابن أو الابنة من مال؟
  • ومتى يُقَدَّم الاشتغال بالكسب على غيره من الأعمال؟ وما نوع الأعمال التي يُقدَّم عليها؟

ستجد أن غالب إجابات المسلمين الفورية على مثل هذه التساؤلات إما أنها: ابتداع شخصي بحت، أو ظن عام، أو عرف متوارث، أو أن صاحبها لم يدر بخَلَده أصلًا أن حيثيات تلك القرارات لها صلة بالشرع؛ ولعلّه لم يفكّر في مساءلة نفسه تلك الأسئلة من الأساس.

وإذا كان هذا مثالًا واحدًا يؤدي التفكر فيه إلى إدراك كمّ المصائب والأخطاء وسوء القرارات التي تنشأ من الجهل به، فكيف لو عدّدنا الأمثلة لتشمل مختلف حركاتنا ومعاملاتنا في الحياة؟

فهل من عجب بعد ذلك أننا مسلمون لا نعرف كيف نحيا مسلمين؟!

«انظر يا بني إلى نفسك عند حدود الله تعالى، فتلمّح كيف حفظك لها، فإنه من رَاعى رُوعي، ومن أَهمَل تُرِك» (ابن الجوزيّ، «لفتة الكبد»).

ثانيًا: التفريق بين دافع الواجب الشرعي والتفضيل الشخصي:

من الضروري التفرقة بين الواجبات الشرعية أو مسؤوليات التكليف الإلهي، والواجبات التي نكتبها على أنفسنا بأنفسنا؛ اتباعًا لعرف، أو استسهالًا لدوامة، دون العناية بترتيب الأولويات والنظر في المقاصد: لماذا نفعله؟ ولمن نفعله؟

وإذا كان الله تعالى قد خلقنا وبيّن لنا مراده من خلقنا، فلا ريب أنه أتمّ هذا البيان بتشريع متكامل يؤطر التكليف وينظم علاقاته ومعايير الحكم فيه، بحيث يجعل لكل شيء قدره ووزنه كما أُريد منه وبه وله، لكننا كثيرًا ما نترك هذا البيان وراء ظهورنا، ثم نشغل أنفسنا بما لم يُطلب منا أصلًا عمّا سنحاسب عليه فصلًا، ونكلّف أنفسنا فوق وسعها بما لم يأمر به الله تعالى، ثم ننكفئ نبكي على عدم وضوح مراد الله تعالى وصعوبة الوصول إليه!

فالذي يطحن نفسه طحنًا في سواقي الأعمال الوظيفية المختلفة، ليدّخر فوق حاجته وقوت أهله لمدة 30 سنة مقبلة، و«يضمن مستقبل العيال»، يُلفَت نظره إلى أن ربه هو الله تعالى الخالق المالك المدبّر الرزاق، الذي لم يُلزمه بهذا الواجب حين خلقه، ولا اشترط على مخلوق ادخار قوت غده فضلًا عن ضمانه، واختص المولى نفسه باسم «الرزاق» (بالألف واللام)، وجعله من أسمائه التي نتعبد له بإفراده بها.

وأما المشروع في مثل هذه المسألة –أي الحلال المباح لا المفروض الواجب– فله شواهد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم والسلف، وهو ادخار قوت سنة لا أكثر، فقد روى البخاري عن عمر رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَيَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ»(1).

وقال الحافظ في شرحه للحديث في «فتح الباري»: «فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الِادِّخَارِ لِلْأَهْلِ قُوتَ سَنَةٍ، وَفِي السِّيَاقِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ «كَانَ صلى الله عليه وسلم لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ» فَيُحْمَلُ (هذا) عَلَى الِادِّخَارِ لِنَفْسِهِ، وَحَدِيثُ «يَحبِس لأهله» عَلَى الِادِّخَارِ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ مُشَارَكَةٌ»(2).

إن اتخاذ القرار الرشيد في حياة المسلم ليس مهارة إدارية مجردة، ولا ثمرة ذكاء دنيوي فحسب، بل هو ثمرة علمٍ يُبصّر بالحدود، وفهمٍ يوسّع إدراك المساحات المشروعة، ونيةٍ تُهذّب التفضيلات الشخصية حتى لا تنازع حق الله تعالى في الأمر والنهي، ومن ينفق من عمره ووقته في تعلّم حكم الله تعالى ومراده، فإنما يدّخر لنفسه سكينة المستقبل، ويقيها أعوام الحيرة والتردد والضياع، فالحق قريب، أوضح من أن يُفتقد، وأقرب إلينا من حبل الوريد، لكن لمن أقبل، وصدق، وتعلّم.

اقرأ أيضا:

عقل السوق وتأثير العواطف على القرارات الاقتصادية

- الخدع الترويجية.. كيف تتخذ الشركات قرار الشراء عنك؟

من همسة المذياع إلى سحرة فرعون.. كيف يشكل الإعلام وعينا دون أن ندري؟!

________________

(1) ابن حجر: «فتح الباري شرح صحيح البخاري»، كتاب النفقات، باب حَبسِ نفقةِ الرجل قوتَ سَنَةٍ على أهله وكيف نفقاتُ العيال (5357).

(2) المرجع السابق.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة