كيف تساهم الأوقاف الزراعية في تحقيق الأمن الغذائي؟

يُعتبر الأمن الغذائي من القضايا العالمية الحيوية، حيث تسعى الدول والمنظمات إلى ضمان توفير الغذاء بشكل مستدام لجميع الفئات الاجتماعية، خاصة في ظل التحديات المتزايدة مثل تغير المناخ، والتصحر، والنمو السكاني المتسارع.

في هذا السياق، برزت الأوقاف الزراعية كأحد الحلول الفعالة التي تساهم في تعزيز الإنتاج الغذائي، ودعم الفئات الفقيرة، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فكيف يمكن للأوقاف الزراعية أن تؤدي هذا الدور؟

أولاً: مفهوم الأوقاف الزراعية:

الأوقاف الزراعية هي أراضٍ ومزارع يتم تخصيصها أو وقفها لصالح أعمال خيرية وتنموية، بحيث تُستخدم أرباحها أو منتجاتها في تحقيق أهداف اجتماعية واقتصادية مستدامة، تشمل هذه الأوقاف الحقول الزراعية، ومزارع النخيل والزيتون، وآبار الري، والبذور، والمعدات الزراعية، ويُعتبر هذا النوع من الوقف امتداداً لفكرة التكافل الاجتماعي في الإسلام، حيث يُستخدم لضمان استمرارية العطاء وتحقيق منفعة عامة تدوم لأجيال.

ثانيًا: دور الأوقاف الزراعية في تحقيق الأمن الغذائي:

1- زيادة الإنتاج الزراعي وتحقيق الاستدامة:

تسهم الأوقاف الزراعية في توسيع الرقعة الزراعية من خلال استثمار الأراضي الوقفية في زراعة المحاصيل الغذائية الأساسية، مثل القمح، والأرز، والخضراوات، والفواكه.

ومن خلال تطبيق ممارسات زراعية مستدامة، مثل الزراعة العضوية، واستخدام تقنيات الري الحديثة، يمكن لهذه الأوقاف تحسين الإنتاجية الزراعية دون الإضرار بالبيئة أو استنزاف الموارد الطبيعية.

2- دعم الفقراء والفئات الهشة بالغذاء المجاني أو المُخفض:

إحدى أهم وظائف الأوقاف الزراعية تخصيص جزء من المحاصيل لمساعدة الفقراء والمحتاجين، سواء من خلال توزيع الغذاء مجاناً أو بأسعار رمزية، هذا النموذج كان شائعاً في التاريخ الإسلامي، حيث وُقفت العديد من المزارع لضمان توفر الطعام للمحتاجين، وهو ما يمكن تطبيقه اليوم لمواجهة الجوع وانعدام الأمن الغذائي في المجتمعات الفقيرة.

3- دعم صغار المزارعين وتوفير فرص عمل:

تمثل الأوقاف الزراعية مورداً مهماً لدعم المزارعين ذوي الدخل المحدود، حيث يمكن تأجير الأراضي الوقفية لهم بأسعار مخفضة أو بدون مقابل؛ ما يساعدهم على زراعة محاصيلهم وتحقيق دخل مستدام، إضافة إلى ذلك، تساهم هذه الأوقاف في خلق فرص عمل، سواء في الزراعة نفسها أو في القطاعات المرتبطة بها، مثل النقل والتخزين والتسويق الزراعي.

4- الحفاظ على الموارد الطبيعية وتحقيق التنمية البيئية:

يؤدي الاستخدام الرشيد للأراضي والمياه في الأوقاف الزراعية إلى تعزيز الاستدامة البيئية، فمن خلال تمويل مشروعات الري المستدام وحماية التربة من التدهور؛ يمكن للأوقاف المساهمة في تقليل آثار التغير المناخي، والحفاظ على التنوع البيولوجي، وضمان استمرار الإنتاج الزراعي على المدى الطويل.

5- تقليل الاعتماد على الاستيراد وتعزيز الأمن الغذائي الوطني:

تساعد الأوقاف الزراعية الدول على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء وتقليل الاعتماد على الواردات الغذائية؛ ما يعزز الاستقرار الاقتصادي والسياسي، فالدول التي تعتمد على الاستيراد تعاني غالباً من تقلبات الأسعار والأزمات الاقتصادية التي تؤثر على قدرة المواطنين على شراء الغذاء، بينما توفر الأوقاف الزراعية بديلاً محلياً موثوقاً للإنتاج الغذائي.

ثالثًا: أمثلة تاريخية ومعاصرة للأوقاف الزراعية:

1- التجارب التاريخية للأوقاف الزراعية:

في التاريخ الإسلامي، أدت الأوقاف الزراعية دوراً محورياً في دعم الأمن الغذائي، وعلى سبيل المثال لا الحصر:

‌أ- في الأندلس: وُقفت مساحات شاسعة من الأراضي لزراعة المحاصيل الأساسية، وكان جزء من العائد مخصصاً للفقراء.

‌ب- في الدولة العثمانية: أنشئت أوقاف زراعية لتمويل المطابخ الخيرية (مثل «إمام سويو» في إسطنبول) التي كانت توفر الطعام للمحتاجين يومياً.

‌جـ- في مصر المملوكية: استُخدمت الأراضي الوقفية لدعم المدارس والمستشفيات، حيث كان جزء من الإنتاج الزراعي يُخصص لإطعام الطلاب والمرضى.

2- التجارب الحديثة للأوقاف الزراعية:

تسعى بعض الدول الإسلامية إلى إعادة إحياء فكرة الأوقاف الزراعية عبر مشاريع حديثة، منها:

‌أ- السعودية: مشاريع الأوقاف الزراعية لتمويل الجمعيات الخيرية وتوفير الغذاء للمحتاجين.

‌ب- الإمارات: مبادرات وقفية لدعم الزراعة المستدامة، مثل تمويل مزارع تعمل بالطاقة الشمسية.

‌جـ- تركيا: استخدام الأراضي الوقفية في إنتاج القمح والزيتون لصالح المحتاجين.

3- تجربة قديمة حديثة:

بئر «رُوْمَه»(1) تلك التجربة القديمة الحديثة التي أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك ديمومة الأوقاف إذا حسنت إدارتها ووجهت مواردها بكفاءة، هذه البئر اشتراها الصحابي الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه ذو النورين وثالث الخلفاء الراشدين، بغرض سقيا الناس، وتقع البئر وسط وادي العقيق في أسفله، قرب مجتمع الأسيال في براح واسع من الأرض(2) في المدينة المنورة، والبئر قطرها 4 أمتار وعمقها 12 متراً وبجوارها أبنية مستحدثة إيوان أو مسجد به محراب لعل بانيه بعض ولاة بني عثمان نظرًا لطراز بنائه(3).

الآن هذه الأرض بفضل البئر أصبحت مزرعة للنخيل والأشجار ومختلف الزروع وغير ذلك، فقد اهتمت بالبئر والمزرعة في العصر الحديث وزارة الزراعة بالمملكة العربية السعودية المستأجِرة للمزرعة، فقد حفرت وزارة الزراعة بئرين ارتوازيتين في شمال بئر رُوْمَه وركبت على كل من البئرين طلمبة تضخ الماء للرى(4) فزاد ماؤها وكَثُر خيرها وتعددت أنشطتها وتوسعت، من مجرد زروع نخيل، وفواكه، وخُضَر، إلى حظائر داجنية وحيوانية.

كما حفرت بئرًا ثالثة في شمال غربي بئر عثمان، وأنشأت فيها مساكن للعمال وزَرعتها كلها، فأصبحت مزرعة فنية نموذجية(5)، حاليًا تشتمل مزرعة بئر عثمان رضي الله عنه، على مشاتل زراعية، وعيادة بيطرية تغطي خدماتها المدينة المنورة بصورة مجانية، وصيانة المزرعة كصيانة الآبار والمباني والأسوار، وتوفير الأجهزة الخاصة بالزراعة، وأيضًا توظيف تكنولوجيا هيدرولوجيا المياه التي تستخدم لمعرفة كمية الأمطار التقريبية في المناطق الزراعية.

إن هذه البئر مع كامل مساحة المزرعة، من جملة أوقاف المسجد النبوي، ومن إدارة الأوقاف تُسْتَأجَر، ومن الجدير بالذكر أن مساحة الأرض الكلية للمزرعة تبلغ 108.449.43 مترًا مربعًا، وتَجْدُر الإشارة إلى أن وقف بئر عثمان رضي الله عنه قائم بعمله منذ أكثر من 1400 عام إلى يومنا هذا، يَروي البساتين حوله، وشأنه شأن الأوقاف التي تتطلب مشاريع استثمارية تدعمها ماليًا وتنفق عليها، للقيام بأعمال الإصلاحات والترميمات والصيانة الدورية وما إلى ذلك، حتى تُحقق الاستقلال المادي الكامل وتكتسب القدرة على تمويل نفسها والاكتفاء ذاتيًا، كي لا تتوقف أو يتعطل عملها لعدم الوفرة المالية.

وقد سعت إدارة الأوقاف بالمدينة المنورة لاستخراج حجة استحكام للعرصة التابعة لبئر عثمان (رُوْمَه) وقامت بتأجيرها، والآن تَستأجرها وزارة الزراعة منذ ما يقرب من 35 عامًا وقد أقامت عليها مباني، وزرعت كامل الأرض.

ويُذكر أن المشاريع الاستثمارية الحالية الخاصة ببئر عثمان رضي الله عنه، التي تُؤمِّن إنتاج الماء بشكل يتماشى مع طبيعة البئر الوقفية، تتمثل في المزرعة الملحق بها البئر والمسماة بمزرعة بئر عثمان والخاصة بإنتاج التمور، ومنشآت سكنية، وتجارية، وفندقية، تم تشييد بعضها والبعض الآخر بين أن يكون قيد التشغيل أو ما زال تحت الإنشاء.

وعليه يجدر القول: إن بئر عثمان رضي الله عنه من الأوقاف الإسلامية التي ما زالت تواصل عملها بكفاءة وفاعلية منذ أكثر من 1400 عام، وهو تجربة وقفية قديمة أُدخل عليها التطوير بإضافة الآبار الارتوازية ليتدفق الماء بكميات أكبر، لتغطية مساحات شاسعة من الأرض.

التحديات التي تواجه الأوقاف الزراعية

رغم الفوائد الكبيرة للأوقاف الزراعية، فإن هناك بعض التحديات التي تواجهها، ومنها:

1- ضعف الإدارة والحوكمة: غياب الإدارة الجيدة يؤدي إلى تراجع إنتاجية الأراضي الوقفية.

2- مشكلات قانونية وتنظيمية: بعض الدول لا تمتلك قوانين واضحة لإدارة الأوقاف الزراعية؛ ما يعيق استثمارها بفعالية.

3- نقص التمويل والتحديث التقني: تحتاج الأوقاف الزراعية إلى استثمارات كبيرة في التكنولوجيا والبحث العلمي لتحسين إنتاجيتها.

4- التعديات على الأراضي الوقفية: في بعض الدول، فيتم الاستيلاء غير القانوني على الأراضي الوقفية؛ ما يقلل من تأثيرها الإيجابي المنشود.

توصيات لتعزيز دور الأوقاف الزراعية في تحقيق الأمن الغذائي

1- تطوير الأطر القانونية لضمان حماية الأوقاف الزراعية وإدارتها بكفاءة.

2- إدخال التكنولوجيا الحديثة مثل أنظمة الري الذكي والزراعة العضوية لزيادة الإنتاجية.

3- إعادة تفعيل الأوقاف الزراعية المتوقفة من خلال خطط استثمارية مستدامة.

4- إنشاء صناديق وقفية لدعم صغار المزارعين وتمويل المشاريع الزراعية الصغيرة.

5- تعزيز الشراكات بين الأوقاف والحكومات والقطاع الخاص لزيادة الاستثمارات في هذا المجال.

وعليه، تمثل الأوقاف الزراعية نموذجاً فريداً في تحقيق الأمن الغذائي والتنمية المستدامة، حيث تجمع بين الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ومع تزايد التحديات التي تواجه قطاع الزراعة والأمن الغذائي، يصبح من الضروري إعادة تفعيل هذا النموذج الوقفي والاستفادة منه في دعم الفئات الفقيرة، وتحقيق الاستدامة الزراعية، وتعزيز الاكتفاء الذاتي الغذائي للدول، ومن خلال الإدارة الفعالة والاستثمار في الابتكار، يمكن للأوقاف الزراعية أن تصبح أداة رئيسية في مكافحة الجوع وتحقيق الاستقرار الغذائي العالمي.





________________

(1) معجم البُلدان، الشيخ الإمام ياقوت بن عبدالله الحموي الرومي البغدادي، دار صادر، بيروت، ج3، د ط، (1397هـ/1977م)، ص104.

(2) فصول من تاريخ المدينة المنورة، على حافظ، د د ن، د ب ن، ط3، سنة (1417 هـ/ 1996 م)، ص191.

(3) آثار المدينة المنورة، عبد القدوس الأنصاري، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، ط3، سنة (1393هـ/1973م)، ص244،245.

(4) الأوقاف النبوية وأوقاف الخلفاء الراشدين، عبد الله بن محمد بن سعد الحجيلي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 2011م، ص182-184.

(5) تاريخ معالم المدينة المنورة قديمًا وحديثًا، السيد أحمد ياسين أحمد الخياري، تحقيق: عبيد الله محمد أمين الكردي، د د ن، د ب ن، ط4، سنة (1414هـ/1993م)، ص184.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة