كيف تعامل المسلمون مع تراث الحضارات الأخرى؟ 5 ضوابط منهجية للاقتباس الحضاري
حفظ لنا ديوان أدبي في القرن الرابع
الهجري وهو كتاب «أدب الكاتب» لأبي بكر الصولي مناظرة بين فارسي وعربي بين يدي
الوزير العباسي الفارسي يحيى بن خالد البرمكي (ت 190هـ)، قال فيها الفارسيّ
للعربي: «ما احتجنا إليكم قطُّ في عمل ولا تسمية، ولقد ملكْتم فما استغنيتم عنا في
أعمالكم ولا لغتكم، حتى إن طبيخكم وأشربتكم ودواوينكم وما فيها على ما سمّينا، ما
غيرتموه!».
فقال العربي، وكان من الأعراب الذين لم
يمسُّوا مدنية قبلُ: «اصبر لنا نملك كما ملكتم ألف سنة بعد ألف سنة كانت قبلها،
فإننا بعدها لا نحتاج إليكم ولا إلى شيء كان لكم» (أدب الكاتب، لأبي بكر الصولي، ت
339هـ، ص 193).
وهذا الوعي الحضاري من هذا الأعرابي
البسيط يحسن التوقف عنده وتأمله، فقد فقِه التفريق بين مكامن قوة الفكرة التي تبني
الحضارة العظيمة، والمنتوجات الحضارية التي هي منجز إنساني يسهل أخذه عن كل أحد
بلا حرج.
ولذا؛ فلم ير المسلمون أن ميراث الحضارات
الأخرى رجس يجب الابتعاد عنه، وإنما صبغوا كل منجز حضاري أخذوه عن الأمم الأخرى
بالصبغة المميزة للحضارة الإسلامية.
حتمية التفاعل الحضاري
إن التفاعل الحضاري بين الأمم في أي من
مستوياته أمر حتمي، سواء كان في مستوى الاستفادة أو الاقتباس أو حتى الاقتداء، وقد
عدّ ابن خلدون اقتداء المغلوب بالغالب من السُّنن الكونية في حضارات الناس، فقال
كلمة هي أشهر ما قال على كثرة ما كتب في فنون العلم المتنوعة: «المغلوب مولع أبداً
بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده» (مقدمة تاريخ ابن
خلدون، 1/ 184).
ولا توهم تلك الكلمةُ المتأملَ أفضلية
ذلك في كل حال، بل هي مقررة لواقِع مُشاهَد من اقتداء المغلوب بالغالب، مثله مثل
تأثير الغالب بالمغلوب الذي سبق ذكره في قصة الأعرابي، ولكن الأفضلية -في التأثر
أو التأثير- تكمن فيما قرر المغلوب أو الغالب مختارًا أن يتأثر به، بجانب صحة
اختياره بالطبع.
وقد كان المسلمون واعين حضاريًا بالدرجة
التي تجعلهم من أكمل من تأثروا وأثَّروا بشأن ميراث الحضارات الأخرى، وذلك
لاعتمادهم ركائز في مشروعية التعامل مع منجزات الحضارات الأخرى، وبضوابط بصَّرتهم
بما يمكن أخذه وما يجب تركه.
شرعية التعامل مع المنجزات الحضارية للأمم الأخرى
يتصور المسلمون أن الله قد ابتعثهم
ليخرجوا العباد من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وسعة الدنيا هذه تكمن في
ذيوع كل خير فيها أيًا كان مصدره، من غير احتكار له، وبالتالي يرون أن المنجزات
الحضارية مشترك إنساني عام، فليس قصرًا على حضارة دون حضارة، بل هو تراكم معرفي
يحدث بشكل ضروري دون قصد له.
ويرون أن الله قد سخّر الكون للإنسان؛
فكل ما فيه من معارف وخيرات ومنجزات حضارية أمور نافعة بغض النظر عن مصدرها،
فالاستفادة منها استفادة من نعم الله.
ويرون أن الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها
فهو أحق بها، وهذا مما يؤسس لمبدأ عالمية المعرفة، ثم عالمية كل ما ستبنيه من
حضارة.
ولذلك؛ لم يروا غضاضة في أخذ بعض النظم
الإدارية من الحضارة الفارسية؛ مثل الديوان وهو مكتب الإدارة والسجلات، ونظام
البريد، ونظام الجند، ثم طوروا هذه النظم من جهة الشمول والترتيب والرقابة، مع
إضافة نظم لم تُعرف بشكلها في الحضارة الإسلامية كنظام الحِسبة الذي حافظ على بقاء
سلطة الرقابة الاجتماعية على الأفراد والمؤسسات بل والحكام، وقد أخذ المسلمون
أيضًا من الحضارة الفارسية أساليب الكتابة الديوانية والإنشاء، فترجموا عنهم
تراثًا كبيرًا أسهم في تطور الكتابة العربية، مع بقاء المقاصد الفكرية الكبرى
المميِّزة للحضارة الإسلامية.
ولم يروا غضاضة في أخد النظم البحرية
والعسكرية من الحضارة البيزنطية؛ التي مكنتهم من بناء الأساطيل وتنظيمها ثم
تطويرها فيما بعد لتكون أعظم من كل ما سبقتها.
ولم يروا غضاضة في أخد علوم الطب
والرياضيات عن الحضارة اليونانية، فقد كانت أعمال جالينوس، وأبقراط، في الطب مما
استفاد منه العلماء المسلمون، ثم طوروه مثل ما فعل الرازي، مؤلف كتاب «الحاوي»،
وابن سينا مؤلف «القانون في الطب» الذي أصبح المرجع الطبي الرئيس في أوروبا لقرون،
وكذلك في الرياضيات والهندسة؛ فقد عمل المسلمون على ترجمة وإكمال وشرح أعمال
إقليدس في الهندسة، وأرخميدس، وأبولونيس، ثم التطوير عليها، كما فعل الخوارزمي،
وثابت بن قرة، وابن الهيثم.. وغيرهم.
ومثل ذلك كثير بشأن الكيمياء الصناعات
والزراعات وسائر مظاهر العمران.
ولكن يبقى السؤال: بما أن المنجزات
الحضارية حاصلة في كل أمة؛ فما الذي تميزت به الحضارة الإسلامية عن غيرها بشأن
الاستفادة من غيرها؟ وهل هو مجرد تطوير لا واعٍ شأنه شأن كل أمة غالبة تأخذ من أمة
مغلوبة؟
لماذا نحن مختلفون؟
والجواب: قد تميز المسلمون في تحديد
الضوابط التي استطاعوا من خلالها الاستفادة من المفيد عند الأخرى ودفع المضر، ثم
ما نتج عن ذلك من معارف وعلوم وعمران أكثر نفعًا وأقل ضررًا بكثير من حضارات
غيرهم.
ومن أهم تلك الضوابط:
1- ضابط العقيدة: ومداره التوحيد، فكل ما
يتعارض مع العقيدة الإسلامية كالنظريات المادية الملحدة، أو الفلسفات التي تنكر
وجود الخالق، أو تجعل معه شريكًا؛ مرفوض جملة وتفصيلاً.
2- ضابط الشريعة: ومداره الحلال والحرام،
فلا يجوز الأخذ بأي شيء فيه مخالفة صريحة لنص شرعي قاطع الثبوت والدلالة، فالنظم
التي تبيح الربا، أو تكرس الظلم، أو تدمر الأسرة، مرفوضة لأنها تخالف الشريعة.
3- ضابط المصلحة والمفسدة: فأي فكرة أو
نظام أو تقنية يجب فحصها عبر موازنتها بمقاصد الشريعة الخمسة (حفظ الدين، النفس،
العقل، النسل، المال)، فإذا ترجحت المصلحة العامة وكانت المنفعة حقيقية؛ جاز الأخذ
بها، وإن لا فلا.
4- ضابط الهُوية: وهي الذاتية الحضارية،
فالاستفادة من الحضارات الأخرى يكون من موقع الثقة بالذات، وليس من موقع التبعية
والانهزام الثقافي، فلا ضير من هضم المعرفة المستوردة وتمثلها، ولكن يجب إعادة
إنتاجها بما يتناسب مع قيم الحضارة الإسلامية وهويتها.
5- ضابط التمحيص: فالحضارة الإسلامية لا
تُجوز القبول لكل ما يأتي من الآخر دون نقد وانتقاء، فكل حضارة فيها الصالح
والطالح، ولا يصح مبدأ القبول الكلي أو الرفض الكلي، بل إرادة التأثير بما تملك من
خير، والتأثر بما يوجد عند الآخر من خير فحسب.
ونتيجة ذلك، تظهر في كل مقارنة بين
الحضارة الإسلامية وبين ما سبقها من حضارات، أو ما تلاها؛ كمثل الحضارة الغربية
التي دمرت كل شيء ذا قيمة، إلا النفعية التي أضرت أكثر البشر، وحصرت أكثر المنافع
مع أقل قليلهم.