كيف نعوّض الأب الغائب؟
هل يمكن تعويض
الأب الغائب؟ كيف يمكن توفير بديل له؟ من يستطيع سد هذا الفراغ؟ ما المطلوب لدعم
الطفل المتضرر من غياب أبيه؟
تساؤلات عدة
تطرح نفسها عند مناقشة تلك القضية، التي تمس وتراً أسرياً واجتماعياً حساساً عند
العديد من الأطفال الذين فقدوا الأب لأي سبب.
قد يكون الأب
الغائب لموت، أو مرض، أو سفر، أو انفصال عن الزوجة، أو سجن، أو غير ذلك من أسباب،
تفرض وجود الأسرة بلا أب، وما يترتب على ذلك من آثار التربية في غياب أحد
الوالدين.
ربما تستغرق
المقالات والدراسات في رصد وكشف الآثار المترتبة على «الأب الغائب»؛ نفسياً وصحياً
واجتماعياً واقتصادياً، وما يلحق بالطفل من ضرر بالغ؛ ما يجعل متلازمة اليتيم
حاضرة في حياة الأطفال الذين فقدوا الأب وهو حي؛ لسبب ما، أو تربوا بلا أب.
لكن هذا المقال
يحاول تجاوز تلك النقطة، إلى البحث عن مساحات جديدة تتعلق بكيفية تعويض الأب
الغائب، وتوفير نماذج بديلة في حياة الطفل، وإنتاج آليات تربوية تثري حياة الطفل،
وتستكمل جوانب النقص النفسي والذهني الناجمة عن غياب الأب.
تجربة حية
من واقع تجربة
حية عاشتها كاتبة هذه السطور، لا يمكن تعويض دور الأب الغائب بكفاءة تامة، أو
إشباع حاجات الصغير من الحب والحنان والدعم في غياب أحد والديه، لكن يمكن الحد
بشكل كبير من أي آثار سلبية تترتب على ذلك.
غيّب الموت الأب
في سن مبكرة، لكن حضر العم والعمة، الخال والخالة، الجد والجدة، بشكل كبير، ضمن
منظومة اجتماعية قوية وإيجابية، وفرت بديلاً داعماً للأسرة، ومحضناً تربوياً
لأبنائها، وحصناً منيعاً، يدفع عنها شرور الناس.
حضور عائلي مكثف
يستند إلى صلة الرحم، وقيم أخلاقية نبيلة حض عليها الإسلام، بمثابة وعاء اجتماعي
ناضج يقدم الحب والحنان والدعم للطفل، ويزيد له من العطاء والدعم والاحتواء، بشكل
قد يجعل الطفل يرى في عمه أو خاله صورة الأب والقدوة.
يبزغ من هذا
الحضور وعاء ثانٍ يمثله أبناء العم والخال، وصدق الشاعر حين قال:
أخاك أخاك إن من
لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وإن ابن عم
المرء فاعلم جناحه وهل ينهض البازي
بغير جناح؟
فأبناء الأعمام
والأخوال هم أقرب الناس للإنسان، وعم الرجل صنو أبيه، والخالة أم.
نماذج بديلة
هناك دوائر أخرى
تحيط بالطفل، من الحكمة أن تكون داعمة له حال غياب الأب، مثل المعلم والصديق
والجار والداعية، وكل منهم يمكن أن يؤدي دوراً إيجابياً في سد الثغرات التي خلفها
الأب الغائب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوف
شَيْئًا، وَلَو أنْ تَلقَى أخَاكَ بوجهٍ طليقٍ» (رواه مسلم).
كم من معلم
استطاع النهوض بطفل يتيم، ومثّل له قدوة ونموذجاً، وقد عزز ثقة الطفل بنفسه، ودفعه
إلى صفوف المتفوقين، بكلمة ثناء، أو جائزة أدبية، بل كان له مرجعاً ومحضناً، يمنحه
الأمان والنصح، ويزوده بكل ما هو نافع وخير!
وهناك من
الأصدقاء من إذا ذكرت الله أعانك، وإذا نسيت ذكرك، فهذا من النماذج الطيبة الصالحة
التي تعوض الأب الغائب، وقد قال عمر رضي الله عنه: «ما أعطي المسلم بعد الإسلام
نعمة أفضل من صديق صالح»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ
لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا- وَشَبَّكَ بَيْنَ
أَصَابِعِهِ» (متفق عليه).
إلى جانب هؤلاء،
من المهم أن يؤدي المجتمع ذاته دوراً رئيساً في ملء هذا الفراغ، وأن يتحرر مبدئياً
من عقدة النقص، والتعامل مع هذا الطفل باعتباره «يتيماً»، بل يجب عدم إشعاره بذلك،
وتكليفه بمسؤوليات تناسب عمره، وتزيد خبرته، وتشعره برجولته، إلى جانب إشراكه في
أنشطة رياضية وكشفية وثقافية تعزز ثقته بنفسه، وتشبع احتياجاته النفسية.
يختلف الأمر
بالتأكيد إذا كان الطفل أنثى، حيث يشكل الأب قيمة كبيرة لدى الفتاة، كونه الرجل
الأول والأكثر أهمية في حياتها، فهو يوفر لها إحساساً بالأمان والدعم والحب؛ الأمر
الذي يفرض على مجتمع العائلة تحديات أكبر في كيفية احتواء الفتاة التي تعاني غياب
الأب.
لكن الخطورة
تكمن في جرعة التدليل الزائد التي تمنحها الأسر والعوائل في حالات الأب الغائب؛ ما
يتسبب في إفساد الابن أو الابنة، لذلك يجب التحوط والحذر، واستخدام اللين والشدة،
كل منهما في موضعه، مع التعهد بنصيحة الأبناء، والحوار معهم، وإقامة جسور من
التواصل الفعال مع عقولهم وقلوبهم.
تربية إسلامية
صحيحة، وشبكة من العلاقات الصحية والمتنوعة مع أفراد الأسرة والعائلة والمجتمع،
وحزمة أنشطة ثرية ونافعة، تعوض الكثير من الفقد الذي يخلفه الأب الغائب، شريطة
توافر أُمّ واعية وناضجة ومثقفة، تقوم بالدورين في آن واحد، وهو أمر يحتاج إلى
تفصيل في مقال آخر.
اقرأ أيضاً: