كيف هندس الاحتلال الفوضى ودمّر السلم الأهلي في قطاع غزة؟

في ظل التدمير الشامل الذي يشنّه الاحتلال «الإسرائيلي» على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023م، لم تقتصر الحرب على القصف والقتل، بل امتدت إلى بنية المجتمع ذاته، في محاولة ممنهجة لتفكيكه من الداخل، فالحرب لم تكن فقط على المباني، بل على المنظومة الأخلاقية والقانونية والمؤسسية التي تحفظ تماسك المجتمع الفلسطيني.

وفي هذا السياق، أصدرت الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد) تقريرًا نوعيًا بعنوان «هندسة الاحتلال الإسرائيلي في تعزيز الفوضى وتداعياتها على السلم الأهلي خلال حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة»، أعدته الباحثة ياسمين قاسم، وجاء في أكثر من 10 فصول، تتبعت خلالها السياسات «الإسرائيلية» التي حوّلت الفوضى إلى أداة رئيسة في سياق الإبادة الجماعية؛ بهدف تدمير منظومة السلم الأهلي، وإدخال المجتمع الفلسطيني في دوامة صراعات داخلية تقضي على وحدته وقدرته على الصمود.

استهداف ممنهج للسلم الأهلي

يفتتح التقرير فصوله بتأكيد أن السلم الأهلي لم يكن بمنأى عن الاستهداف «الإسرائيلي»، بل كان في صميم إستراتيجيته لتفكيك المجتمع الفلسطيني، فالسلم، بوصفه الركيزة الأساسية لوحدة المجتمع وقدرته على الصمود، تعرض لضربات ممنهجة طالت بنيته ومقوماته، ويؤكد التقرير أن الاحتلال، على مدار سنوات، سعى لضرب هذا التماسك من خلال سياسات الترويع والتجويع وإذكاء الانقسامات الداخلية.

ويوضح التقرير أن العدوان المتواصل منذ 7 أكتوبر 2023م أدى إلى تآكل شبه كامل لسيادة القانون، وانهيار الثقة المجتمعية، وغياب أدوات الحماية القانونية؛ ما مهّد الطريق لظهور مظاهر العنف الداخلي والانفلات الأمني.

تفكيك الأجهزة الأمنية.. فراغ أمني ومجتمعي خطير

في فصل بالغ الأهمية، يوثق التقرير استهداف الاحتلال لـ19 مركزًا للشرطة بشكل كامل، وتضرر 3 مراكز أخرى، في سياق سياسة تهدف إلى تعطيل البنية الأمنية في غزة.

وقد أدى ذلك إلى استشهاد أكثر من 1400 عنصر أمني، وإصابة ما يزيد على 1950 آخرين، واعتقال 211؛ بما يشير إلى مسعى واضح لإفراغ القطاع من أدوات الضبط والاستقرار.

كما أجبر قصف مراكز التوقيف السلطات المحلية على الإفراج القسري عن أكثر من 1600 موقوف، من بينهم متهمون في قضايا خطرة؛ ما تسبب في انفجار أمني، وتصاعد كبير في معدلات الجريمة، وخصوصًا في ظل غياب الردع القانوني.

إبادة ممنهجة للمنظومة القضائية

يُبرز التقرير تدمير الاحتلال المنهجي لمؤسسات القضاء، وعلى رأسها قصر العدل في غزة الذي كان يحتوي على أكثر من 900 ألف ملف قضائي، إضافة إلى استهداف مجمعات المحاكم في خان يونس ورفح وشمال القطاع؛ ما أدى إلى فقدان ما مجموعه 1.2 مليون ملف قضائي، وحرمان آلاف المواطنين من حقوقهم القانونية.

كما طالت الضربات المحاكم الشرعية، واغتيل عدد من القضاة والمأذونين، فيما استُهدف مقر نقابة المحامين، واستشهد أكثر من 200 من أعضائها وذويهم، إلى جانب تدمير مئات المكاتب القانونية، في مسعى لتجريد المجتمع من مرجعيته القانونية، ودفعه نحو الفوضى المطلقة.

مساعدات تحت القصف

واحدة من أكثر الشهادات صدمة، توثيق استشهاد 754 عنصرًا من الشرطة أثناء تأمينهم المساعدات الإنسانية ومنع نهبها، وسط قصف «إسرائيلي» مباشر لنقاط التوزيع، فيما بات يُعرف بـ«مجازر الطحين»، التي أودت بحياة أكثر من 400 مواطن.

ويكشف التقرير أن طائرات الاحتلال المسيّرة من طراز «كواد كوبتر» كانت تطلق النار على المدنيين الجائعين، في حين سمح الاحتلال لعصابات مسلّحة بنهب الشاحنات علنًا، في مشهد وصفه التقرير بـ«تحالف الفوضى بين الاحتلال والعصابات»، لإضعاف ثقة الناس بالمؤسسات، وتفكيك المجتمع الفلسطيني من الداخل.

تفكيك مقومات الحياة

تحت عنوان «تفكيك مقومات الحياة»، أورد التقرير استهدافًا متعمدًا للبلديات والخدمات المدنية، شمل اغتيال رئيس بلدية دير البلح، واستشهاد أكثر من 50 موظفًا بلديًا، وتدمير شبكات المياه والصرف؛ ما أسفر عن كارثة بيئية وانتشار الأوبئة.

في القطاع الصحي، خرجت 94% من المستشفيات عن الخدمة، واستُهدف 180 سيارة إسعاف، واستشهد 1581 من الكوادر الطبية، فيما يحتاج أكثر من 10 آلاف مريض لإجلاء عاجل.

أما التعليم، فشهد كارثة غير مسبوقة؛ أكثر من 785 ألف طالب وطالبة حُرموا من التعليم، بسبب تدمير 149 مدرسة ومؤسسة تعليمية بالكامل، وتضرر 370 مرفقًا تعليميًا آخر، واستشهاد نحو 14 ألف طالب، و800 معلم، و150 أكاديميًا، فيما وصفه التقرير بإبادة جيل كامل.

التهجير القسري وإعادة إنتاج الانقسام الاجتماعي

أفرد التقرير فصلًا خاصًا لتوثيق التهجير الجماعي، حيث شُرد نحو 90% من سكان غزة (أكثر من مليوني نازح)، ويشير إلى تنصّل الاحتلال من اتفاق وقف إطلاق النار في يناير 2025م، واستئناف أوامر الإخلاء في مارس؛ ما أدى إلى تشريد أكثر من 280 ألف أسرة فلسطينية.

في مناطق النزوح، تفشت مظاهر الفوضى، من عصابات مسلحة إلى غياب القانون وانتشار الأسلحة؛ ما عمّق الانقسامات الطبقية والجغرافية، ورسّخ بيئة تغذي الاحتراب الداخلي والانهيار الاجتماعي.

التجويع كسلاح إبادة وصناعة فوضى

يشير التقرير إلى أن الاحتلال تبنى سياسة «هندسة التجويع»، بتحويل الغذاء إلى أداة للهيمنة، فاستُشهد 66 طفلًا نتيجة الجوع، ووقعت 242 حالة وفاة بسبب نقص الدواء والغذاء، و300 حالة إجهاض، و26 مريضًا بالكلى فقدوا حياتهم لانعدام العلاج، كما يعاني أكثر من 70 ألف طفل من سوء تغذية حاد.

ووثق التقرير تدمير 33 تكية طعام، و40 مركزًا للتوزيع، و719 بئر مياه، وسط اعتماد 90% من السكان على المساعدات، وتم توثيق سقوط ضحايا أثناء مطاردة المعونات من الجو أو البحر، حيث استشهد 9 مدنيين بسبب سقوط الطرود، وغرق 11 أثناء محاولة الوصول إليها، وسط توزيع فوضوي يُحوّل مراكز الإغاثة إلى مصائد موت.

العصابات المسلحة.. أدوات «إسرائيلية» للفوضى

أورد التقرير معلومات صادمة عن ظهور جماعة مسلحة تُدعى «أبو شباب»، تفرض إتاوات تصل إلى 15 ألف شيكل على شاحنات الإغاثة، وتنشط في القتل والنهب، ويظهر قائدها بزي عسكري أمريكي، بينما أكد أفيغدور ليبرمان علنًا وجود تنسيق بينها وبين الحكومة «الإسرائيلية»؛ ما يدعم فرضية التقرير حول «هندسة الفوضى» عبر أذرع داخلية.

انهيار القانون وعودة «قانون الغاب»

وصف التقرير الحالة في غزة بأنها حكم السلاح والفوضى، حيث وثّق 30 حالة وفاة نتيجة عنف عائلي أو استخدام السلاح خارج القانون خلال عام 2024م فقط.

وأورد شهادات عن حوادث قتل بسبب الشجارات أو النزاعات العائلية أو الجوع، أبرزها حادثة مقتل مواطن وشاب من الشرطة في دير البلح نتيجة خلاف على توزيع كيس دقيق.

القضاء العشائري والمحاكم الثورية.. بدائل مؤقتة محفوفة بالأخطار

مع تدمير المنظومة القضائية، عاد القضاء العشائري إلى الواجهة، لكن التقرير يحذر من تحوّله إلى سلطة موازية تقوم على النفوذ لا القانون، كما أعيد تفعيل المحاكم الثورية، التي تمنح ضباطًا عسكريين صلاحيات إصدار أحكام إعدام ميدانية، دون ضمانات المحاكمة العادلة؛ ما يفتح الباب لتصفية حسابات تحت غطاء العدالة، وفق التقرير.

الانقسام السياسي.. وقود للفوضى

سلّط التقرير الضوء على أن الانقسام السياسي كان عاملًا حاسمًا في تعميق حالة الفوضى، حيث غابت القيادة الموحدة وتفاقمت الخطابات التحريضية، ودعا إلى ضرورة تفعيل الحوار الوطني الشامل، كخطوة أولى نحو ترميم النظام السياسي وإعادة بناء السلم الأهلي.

المسؤولية القانونية للاحتلال ومطالب بالمحاسبة الدولية

حمّل التقرير الاحتلال «الإسرائيلي» المسؤولية القانونية والأخلاقية الكاملة عن انهيار الأمن والسلم في غزة، معتبرًا ما يجري امتدادًا لجريمة إبادة جماعية ممنهجة، وطالب بتفعيل المساءلة الدولية أمام المحكمة الجنائية الدولية، التي تنظر في مذكرات توقيف بحق قادة الاحتلال، من بينهم رئيس الحكومة الصهيونية نتنياهو، ووزير الحرب السابق يوآف غالانت.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة