سطوة التأثير.. كيف يشكّل المؤثرون عقولنا وقيمنا؟!

في فضاءات «السوشيال
ميديا»، لم تعد القدوة حكراً على المعلم في مدرسته أو الشيخ في محرابه أو المثقف
في منبره، بل صار المؤثر -أيًّا كان عمره أو مهنته أو ثقافته- قادراً أن يكون
«قدوة» عابراً للحدود، أو مغامراً يجرّ جمهوره إلى مهاوٍ من التفاهة أو حتى
التدمير الذاتي.
إنه عصرٌ جديد،
حيث يتلاشى الفاصل بين النصيحة والتسويق، بين الإلهام والاستغلال، بين القدوة
الحقيقية وصورةٍ مصنوعة على مقاس الخوارزميات.
القدوة الرقمية.. سلطة اللاسلطة
الدراسات
الحديثة، مثل تقرير «Digital
2024 Global Overview Report»، تشير إلى
أن أكثر من 60% من الشباب العربي يستقون قِيَمَهم وتصوراتهم عن النجاح والسعادة من
منصات التواصل، فلم تعد السلطة الأبوية أو المرجعية التقليدية هي الموجِّه، بل
باتت صورة المؤثر في فيديو قصير على «تيك توك» أقدر على إعادة تشكيل الوعي الجمعي،
وهنا تتجلى خطورة «اللاسلطة»؛ قدوة بلا ضوابط، مؤثر بلا مؤهلات، ومع ذلك يمتلك
ملايين المتابعين.
بين النموذج والإغراء
المؤثر الذي
يشارك متابعيه قصته في كفاحه الدراسي، أو نجاحه في بناء مشروع صغير، قد يُلهِم
آلاف الشباب للسير على خُطاه، وفي المقابل، مؤثر آخر يختزل «الحياة الجيدة» في
سيارة فارهة أو حقيبة باهظة أو أسلوب حياة قائم على الاستعراض، يدفع جمهوره إلى
الاستهلاك المفرط والشعور بالنقص الدائم، دراسة نُشرت في «Journal of Social and Clinical Psychology» (2018) أظهرت أن الاستخدام المفرط لـ«إنستغرام»
يرتبط بزيادة مشاعر القلق والاكتئاب بسبب المقارنة المستمرة مع «المثالي المزوّر»
الذي يصنعه المؤثرون.
القدوة الخفية: المؤثر كبديل للأسرة
في مجتمعات
تزداد فيها فجوة الحوار بين الأجيال، يلجأ المراهقون بشكل خاص إلى المؤثرين
كـ«أصدقاء» و«مرشدين»، وهنا يتحول المؤثر إلى قدوة خفية: يحدد لغة الحديث، نوعية
اللباس، حتى أسلوب التفكير، وهذا ما دفع باحثة الاتصال داناه بويد إلى القول:
«المؤثرون صاروا أشبه بما كان يقوم به المعلم أو المربي، لكن دون أي تدريب أو
مسؤولية اجتماعية».
بين التربية الرقمية وصناعة التفاهة
قدوة المؤثر
يمكن أن تكون بنّاءة؛ تعلم لغة جديدة، ممارسة الرياضة، تعزيز العمل الخيري، لكنها
قد تكون أيضاً آلة لتعميم التفاهة؛ تحديات فارغة، محتوى قائم على الإيحاءات، أو
حتى الترويج للسطحية باعتبارها حرية، المفارقة أن الخوارزميات تكافئ الأخير أكثر،
لأنه يولّد التفاعل اللحظي.
وهناك دراسة من «MIT» (2018) حول
الأخبار الكاذبة، بيّنت أن المحتوى «المثير والمبالغ فيه» ينتشر أسرع بنسبة 70% من
المحتوى الرصين، قاعدة لا يستثنى منها مجال المؤثرين.
اقتصاد التأثير.. حين تتحول القدوة إلى سلعة
القدوة لم تعد
قيمة معنوية فقط، بل أصبحت سلعة تسوَّق، شركات عالمية تخصص مليارات الدولارات
لـ«التسويق عبر المؤثرين»، وفق تقرير «Influencer Marketing Hub» 2023م، حجم سوق التسويق عبر المؤثرين تجاوز 21 مليار دولار،
هذا يحوّل المؤثر من مُلهِم فردي إلى «واجهة إعلانية»، قد تبيع أي منتج حتى لو كان
ضارًا، ما دام المقابل مغريًا.
الأخطار النفسية والاجتماعية
الأبحاث في «American Psychological Association» حذّرت من أن الشباب الذين يتابعون مؤثرين
يقدمون أنفسهم كنماذج مثالية للجمال أو النجاح، ترتفع لديهم معدلات اضطرابات الأكل
واضطراب صورة الجسد، هنا يتحول المؤثر إلى «مخاطِر صامت»؛ قد لا يقصد الأذى، لكنه
يزرع بذور المقارنة القاتلة في أذهان المتابعين.
حين يصبح المؤثر أداة تغيير إيجابي
لكن الصورة ليست
قاتمة بالكلية؛ هناك مؤثرون حقيقيون صنعوا فارقًا، شاب عربي يوثّق رحلة فقدانه 40
كيلوغراماً عبر الرياضة؛ فيُلهم آلافاً لاتباع أسلوب حياة صحي، مؤثرة أخرى تحوّل
منصتها إلى مساحة للتوعية بسرطان الثدي، ففي دراسة من «Harvard Business Review» (2021) وجدت أن المؤثرين الذين يوازنون بين الأصالة والمصداقية
يحققون أعلى درجات التأثير المستدام، مقارنة بمن يركّزون على الاستعراض فقط.
من القدوة الفردية إلى المسؤولية المجتمعية
المؤثر ليس
فردًا عاديًا، بل «مؤسسة متنقلة»، كل فيديو قد يغير حياة شاب، كل كلمة قد تؤثر على
وعي مئات، هنا تبرز الحاجة إلى إطار أخلاقي للتأثير: ميثاق يُحمّل المؤثر مسؤولية
مجتمعية، كما يتحمل الصحفي مسؤوليته التحريرية، بعض الدول بدأت خطوات، مثل ألمانيا
التي فرضت قواعد صارمة للإعلان عبر المؤثرين، منعًا لاستغلال الجمهور دون إفصاح.
دور الأسرة والمؤسسات
القدوة الرقمية
لا يمكن مواجهتها بالمنع، بل بالتحصين، الأسرة التي تحاور أبناءها تخلق توازناً
أمام جاذبية المؤثر، المدرسة والجامعة مطالبتان بتدريس «التربية الإعلامية
الرقمية»، ليعرف الشباب كيف يفرّقون بين قدوة مُلهِمة وقدوة زائفة، هنا يلتقي
العلم بالدين بالقيم في صناعة وعي محصّن.
بين الأمل والخطر
المؤثرون هم
مرآة زمننا؛ يعكسون طموحاته وسطحياته، أحلامه وهشاشته، يمكن أن يكونوا شموعًا تضيء
دروب الشباب، أو نيرانًا تحرق وعيهم، القرار في يدنا -كمجتمع وأفراد ومؤسسات- أن
ندفعهم نحو القدوة البنّاءة، أو نتركهم يسبحون بلا بوصلة في بحر الخوارزميات.
فالقدوة ليست
مجرد متابعين بالملايين، بل قدرة على زرع قيم تبقى أطول من مقطع قصير، والمؤثر
الحق هو الذي يدرك أن جمهوره ليس مجرد عدد، وإنما مستقبل يثق بكلماته.