لا يرقُبون في مؤمن إلَّاً ولا ذمة

د. محمد السبأ

15 سبتمبر 2025

256

الإنسان مجموعة قيَم، وإذا فقد هذه المنظومة فلا اعتبار له ولا معنى لإنسانيته، وهو يخرج من هذه الدائرة التي منحها الله له بقدر ما يفقد من تلك القيم أيضاً، ولذلك لا غرابة أن تجد البعض ينسلخ من إنسانيته حتى يصل لمستويات من الغدر والفجور غير معقولة! وما ذاك إلا أنه فقد أولًا منظومة القيم التي فيها الفطرة والمروءة والذمام، ومن أهم تلك القيم الوفاء والمحافظة على العهد والوعد ورعاية حق الآخرين.

أهمية الالتزام بالعهود والذمم في الإسلام

أمر الله تعالى المسلمين بالوفاء بالعهد إذا عاهدوا، ورتَّب على ذلك ثواباً، وفي المقابل رتَّب إثماً إذا تجاوزا أو أخلًّوا أو غدروا، قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (النحل: 91)، وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا) (الإسراء: 34)، وقال تعالى محذراً: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة: 27).

لا يرقُبون في مؤمن إلا ولا ذمة

بيَّن الله تعالى أن نقض العهد من صفات اليهود، فقال تعالى: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (البقرة: 100)، وهم يفعلون ذلك لفقْدهم منظومة القيم بعد فقْدهم دينَهم وتلاعبهم بشريعة ربهم، وبناء عليه فلا يهمهم إلا مصالحهم الدنيوية التي يرونها هم، فلا بأس عندهم أن يغدروا ويفجروا، فهم وكل أعداء الإٍسلام (لا ‌يَرْقُبُونَ ‌فِي ‌مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) (التوبة: 10)؛ أي: لا يرقُبون في مؤمنٍ اللهَ ولا قرابةً ولا عهداً ولا ميثاقاً. (تفسير الطبري).

وقد قال الله فيهم: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) (المائدة: 82)؛ ومَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ كُفْر الْيَهُودِ كفر عِنَاد وَجحود وَمُبَاهَتَةٌ لِلْحَقِّ وَغَمْطٌ لِلنَّاسِ وَتَنَقُّصٌ بِحَمَلَةِ الْعِلْمِ، وَلِهَذَا قَتَلُوا كَثِيراً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى هَمُّوا بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غير مرة، وسمُّوه وَسَحَرُوهُ، وَأَلَّبُوا عَلَيْهِ أَشْبَاهَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. (تفسير ابن كثير)، وهذه أخلاقهم وطبائعهم حتى مع الله جل في علاه ومع أنبيائه، فكيف يراعي حقّ المؤمنين من لا يراعي حقّ الله فى الله؟ (تفسير القشيري). 

غدر اليهود والنصارى بالمسلمين

سبق وأشرنا إلى غدر اليهود والنصارى والمشركين بالمسلمين، وهذا أثبته الله تعالى في كتابه الكريم في أكثر من آية، كما أثبت عصيانهم لله ورسله وقتلهم الأنبياء ومخالفاتهم الكبيرة والكثيرة، ولهذا استحقوا لعنة الله وعقابه، وهل بعد قول الله فيهم قول؟! (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (الأنفال: 56).

والتاريخ مليءبالمواقف والأحداث التي غدر فيها اليهود والنصارى بالمسلمين، ولا يشكِّك في ذلك أو يتغافل عنه إلا أعمى البصيرة، وأول غدرٍ لليهود كان بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فبعد أن أمَّنهم على أموالهم ومواليهم؛ غدر بنو قينقاع ثم بنو النضير ثم بنو قريظة التي كادت خيانتهم أن تسقِط المدينة في أيدي الأحزاب، وكذلك فعلت يهود خيبر، ولم يتعظ بعضهم ببعض، أمَّا أول غدر للنصارى فكان حينما قتلوا رسول النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسله يدعوهم إلى الإسلام، وكان هذا الحادث سبب غزوة «مؤتة».

أهمية الوحدة الإسلامية وضرورة التصدي لمحاولات الاختراق والتفتيت

السيرة النبوية تحتِّم علينا الفقه المطلوب للتعامل مع غدر الأعداء ومواقفهم الدنيئة والمتكررة إزاء الإسلام وأهله، فالنبي صلى الله عليه وسلم اهتم بالمجتمع المسلم وأفراده كلهم وخصوصاً المحاربين؛ سواء وقت السلم أو الحرب، وكان يقف بقوة أمام أي محاولة من أعداء الإسلام لاختراق أصحابه أو التأثير فيهم، وهذا أساس القوة ومُنطلق النصر.

بل أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وهذه الخطوة العظيمة كان لها أعظم الأثر في الثبات أولاً والتصدي لمحاولات الأعداء ثانياً والانطلاق لبناء الدولة ثالثاً.

والمتأمل يجد أن المهاجرين جاؤوا من بيئة شِرْك وقومهم أهل مكة الذين فروا منهم، بينما الأوس والخزرج كانوا حلفاء لليهود، فالمؤاخاة جاءت لتأخذ هؤلاء وهؤلاء من أولئك الذين لا عهد لهم ولا ذمة ولا مروءة، ليكون المسلمون أوْلى ببعضهم بعضاً.

ولم يهدأ اليهود أبداً وهم يشاهدون نماء المسلمين وقوتهم، فقد مرَّ يوماً شاس بن قيس اليهودي وكان شيخاً قد عسا (كبر) في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم، مرَّ على نفرٍ من الأوس والخزرج فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيْلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، ثم أمر شاباً يهودياً معه أن يجلس معهم ويذكِّرهم بأيام الحرب بينهم في الجاهلية، وبالفعل فقد استفزَّهم وبعثهم على الخصام حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً، وخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم يعيدهم إلى رشدهم وسعة دينهم. (انظر: تاريخ الطبري)، وقد أنزل الله في ذلك (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ {100}‏ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (آل عمران).

وفي قصة تخلُّف الصحابة الثلاثة ومنهم كعب بن مالك، تظهِر لنا تربُّص العدو لأي فرصة يجدها نافذة للفرد المسلم، وانظر إلى فعل النصارى آنذاك، يقول كعب: فَبيْنَا أَنَا أَمْشِي في سُوقِ المَدِينَةِ، إذَا نَبَطِيٌّ مِن نَبَطِ أَهْلِ الشَّامِ، مِمَّنْ قَدِمَ بالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بالمَدِينَةِ يقولُ: مَن يَدُلُّ علَى كَعْبِ بنِ مَالِكٍ، قالَ: فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ له إلَيَّ، حتَّى جَاءَنِي فَدَفَعَ إلَيَّ كِتَابًا مِن مَلِكِ غَسَّانَ، وَكُنْتُ كَاتِبًا، فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فإنَّه قدْ بَلَغَنَا أنَّ صَاحِبَكَ قدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بنَا نُوَاسِكَ، قالَ: فَقُلتُ: حِينَ قَرَأْتُهَا: وَهذِه أَيْضَا مِنَ البَلَاءِ فَتَيَامَمْتُ بهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهَا بهَا. (متفق عليه).

والتاريخ اليوم يبيِّن لنا اجتهاد أعداء الإسلام في تفتيت صف المسلمين وإضعافه بكل الوسائل والطرق، وصدق الله: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (البقرة: 109)، وقوله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) (النساء: 89).

الاستفادة من الدروس التاريخية لبناء مستقبل قوي ومتحد

التاريخ والواقع يشهدان أن الأقوى هو الأبقى، والاتحاد من أهم عوامل القوة؛ ولذلك نرى كل الأمم العاقلة تتحد وتتجمَّع وتسعى لأن تكبر وتتوسع على كل المستويات، وأعظم العناصر أهمية في عملية الاتحاد هو الإنسان، لأنه الذي يبني وينتج وهو المُستخلف في الأرض، ونجد اليوم أن أي أمةٍ تتخلَّى عن السعي للقوة وتفضِّل الانفراد والتفكك على الاجتماع والاتحاد؛ تكون لقمة سائغة لعدوها، فهل آن لنا أن نعقل ونعمل ونتحد؟

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة