لغة المجتمع.. مرآة الوعي أم ساحة صراع؟

اللغة ليست مجرد
أصوات تتناثر بين الناس، بل هي وعاء الفكر، ومحرّك الوجدان، ومرآة تعكس مستوى
الوعي الجمعي لأي مجتمع، ولغة الخطاب المجتمعي هي تلك التي تفيض من أحاديثنا
اليومية، ومنشوراتنا في وسائل التواصل، ومداخلاتنا في القضايا العامة، وهي التي
تكشف بدقة عن عمق ثقافتنا أو سطحيتنا، وعن نضجنا أو انفعالنا، وعمّا إذا كنا نسير
في طريق البناء أم في دروب التنافر.
من وسيلة تعبير إلى ساحة صراع
حين يتأمل المرء
المشهد العام يلحظ أن الخطاب لم يعد مجرد وسيلة للتعبير، بل تحوّل إلى ساحة صراع
بين قيم متناقضة، وأهواء متدافعة، ونوازع تبحث عن الصوت الأعلى لا الموقف الأصدق، ومع
ذلك، فإن إصلاح الخطاب لا يبدأ من ضبط المفردات فحسب، بل من إعادة توجيه البوصلة
التي تحكمها؛ تلك البوصلة القيمية والفكرية والثقافية التي تحدد وجهتنا قبل أن
نفتح أفواهنا.
البوصلة الثلاثية.. القيم والفكر والثقافة
البوصلة القيمية
هي التي تجعل الكلمة عبادة، والموقف مسؤولية، والنقد أمانة، هي التي تقول لنا: قل
الحق ولا تجرّح، ناقش ولا تزدري، خالف ولا تشتم، إنها قيم الصدق والعدل والرحمة
واحترام الإنسان، التي تجعل الخطاب إصلاحًا لا انتقامًا، وتعبيرًا عن النبل لا عن
الغضب، أما البوصلة الفكرية فهي التي تضع الوعي قبل الانفعال، والعقل قبل الحماسة،
فتجعل من الكلمة مشروع وعي لا لحظة جدل، ومن الرأي بحثًا عن الحقيقة لا عن الغلبة،
ثم تأتي البوصلة الثقافية لتمنح الخطاب ذوقًا واتزانًا، فتعيد للغة العربية
رصانتها، وللذوق العام بهاءه، وتذكّر الناس أن الكلمة الجميلة جزء من هوية الأمة
لا ترفًا لغويًا.
أسباب انحراف المسار
لكننا حين نراجع
مسار الخطاب في واقعنا نلمح انحرافًا تدريجيًا بدأ يعبث بجمال المعنى ورقي المقصد،
تراجعت التربية اللغوية والفكرية في البيت والمدرسة والإعلام، وغابت القدوات التي
تُلهم الناس بلغةٍ راقية، وفتحت وسائل التواصل أبوابها لكل صوت، مهما كان حادًّا
أو جاهلًا أو مأزومًا، نضف إلى ذلك الاستقطاب السياسي والفكري الذي قسّم الناس
معسكراتٍ لغوية متخاصمة، وغياب المرجعيات الجامعة التي تُعيد ضبط الإيقاع عندما
يختلّ.
علامات الانحراف.. حين تفقد الكلمات طهرها
تجلّت علامات
الانحراف في لغتنا اليومية، فانتشرت عبارات التعميم والتخوين، وغلب التهكم على
الحوار، وتحوّلت النقاشات إلى ساحات منازلة لا مساحات تفكير، صار الناس يستهلكون
المفردات أكثر مما ينتجون المعاني، وغابت لغة البناء لصالح لغة الكسر، ومع كل ذلك،
أخذت الكلمات تفقد طهرها، وصار الحديث في الشأن العام مثقلاً بالانفعال أكثر من
الحقيقة.
انعكاسات خطيرة.. الكلمة تصنع السلوك
ولأن الكلمة
تصنع السلوك، كان لهذا الانحراف دلالات عميقة وانعكاسات خطيرة، فالمجتمع الذي
يتحدث بلغة الشك والكراهية يعيشها فعلاً، ويتحوّل خطابه إلى عامل تفكيك لا تماسك، تراجعت
الثقة بين المكونات الاجتماعية، وتصدرت المشهد الأصوات العالية على حساب المتزنين،
وتشوهت صورة المجتمع في الخارج لأنه لم يعد يُرى إلا من خلال ما ينشره من لغته، وحتى
في الداخل، فقدنا لغة القدوة، وصار المهاجم نجماً والمتعقل هامشاً.
إصلاح المسار.. كيف نعيد للكلمة قيمتها؟
إصلاح هذا
المسار لا يأتي بقرار ولا بخطاب جديد، بل ببناء وعي متدرّج يعيد للناس تقدير
الكلمة، ويزرع فيهم حسّ المسؤولية تجاه ما يقولون، علينا أن نُعيد للتربية دورها
في تهذيب اللسان، وأن نُمكّن الأصوات العاقلة في الإعلام، وأن نعلّم الناس ثقافة
الحوار وأدب الخلاف، وأن نغرس فيهم يقينًا أن الكلمة أمانة تُكتب في صحائفنا قبل
أن تُكتب في الشاشات، ولعل أجمل ما يذكّرنا به القرآن في هذا السياق قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق: 18).
لغة الأمة مقياس نضجها
إن لغة الخطاب
المجتمعي مقياس لمدى نضج الأمة، فإن سمت لغتنا سمت حياتنا، وإن انحدرت ألفاظنا
انحدر وعينا، وحين يتأدب الناس بالكلمة، ويتعلمون كيف يختلفون دون أن يتباغضوا،
وحين يتعودون أن يتكلموا بميزان العقل والقيم، عندها فقط يمكن أن نقول: إننا بدأنا
ننهض من جديد، لا بفعل السياسة ولا الاقتصاد، بل بفعل اللغة التي تسكن قلوبنا قبل
أن تخرج من ألسنتنا.