لماذا لم ننتصر؟!

مصطفى عاشور

24 مارس 2025

162

غاية المقال تصحيح الوعي الديني عن العلاقة بين شهر رمضان والانتصارات، فالكثير من الدعاة والوعاظ ملؤوا آذان الناس بوجود علاقة تلازم بين الشهر الفضيل وتحقيق الانتصار، ويدلل على فرضيته باستعراض الكثير من الانتصارات الكبرى التي حققها المسلمون في هذا الشهر، وفي مقدمتها غزوة «بدر» الكبرى.

لكن السؤال: هل هناك تلازم بين رمضان والانتصار؟ أم أن المسلمين استفادوا من الطاقة الروحية والإيمانية التي تتولد في نفوس المسلمين في رمضان، مع استكمال العدد والعدة وسنن النصر، وبالجمع بين القوة الروحية المعنوية، والقوة المادية؛ نسجوا تلك الانتصارات؟

رمضان كان شهر الانتصارات الكبرى، أما الوجه الآخر فقد كان رمضان شهر الانتكاسات والهزائم الكبرى للمسلمين التي غيّرت مسارات التاريخ، فقد شهد هزيمة المسلمين في معركة «بلاط الشهداء» التي أغلقت الباب أمام المسلمين لفتح غرب أوروبا، وشهد هزيمة العثمانيين أمام أسوار فيينا، التي كانت هزيمة غيَّرت مسار التاريخ العثماني والأوروبي، وشهدت سقوط مدن المسلمين الكبرى في الأندلس مثل سرقسطة وإشبيلية، وشهد دخول النصارى لآخر معاقل المسلمين في الأندلس وهي غرناطة، وكل تلك هزائم من العيار الثقيل.

من عند أنفسكم

يذكرني الربط بين رمضان والانتصار بحادثة وقعت في الجامع الأزهر إبان عصر الخديوي إسماعيل، فعندما تعرضت العساكر المصرية لهزائم وتراجع أثناء حروبها في الحبشة، دعا الخديوي بأن يجتمع علماء الأزهر لتلاوة صحيح البخاري، ثم يتضرعوا إلى الله بطلب النصر، ففعلوا ذلك، لكن الهزائم تتابعت.

فصاح فيهم الخديوي غاضباً: إما أن هذا ليس صحيح البخاري، وإما أنكم لستم العلماء!

فصاح أحد العلماء: أنت السبب في الهزائم يا إسماعيل..‍‍! فإنا روينا عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم»، فما ذنب العلماء إذن؟!

هذا الموقف يعيد تذكيرنا بما قصه القرآن الكريم علينا في تعجب المؤمنين من هزيمتهم في غزوة «أحد»، قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران: 165)؛ يقول الشيخ محمد عبده في تفسير تلك الآية: «وكل ما أصابكم أيها المؤمنون يوم التقى جمعكم بجمع المشركين في «أحد» فهو بإذن الله؛ أي إرادته الأزلية وقضائه السابق بأن تكون السنن العامة في الأسباب والمسببات مطردة، فكل عسكر يخطئ الرأي ويعصي القائد ويخلي بين العدو وبين ظهره يصاب بمثل ما أصبتم أو بما هو أشد منه».


اقرأ أيضاً: أسباب النصر في الهدي القرآني


أما تفسير «الظلال»، فيصف سذاجة التصورات في التعامل مع سنن النصر والهزيمة، قبل أن تطحن المسلمين التجربة في غزوة «أحد»: «لقد كتب الله على نفسه النصر لأوليائه، حملة رايته، وأصحاب عقيدته.. ولكنه علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم؛ وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم وسلوكهم؛ وباستكمال العدة التي في طاقتهم، وببذل الجهد الذي في وسعهم.. فهذه سُنة الله، وسُنة الله لا تحابي أحداً.. فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن لهم وإبطال الناموس».

ظروف المعركة

والحقيقة أن المعارك التي انتصر فيها المسلمون أو التي انهزموا فيها، لم يكن خوضها في شهر رمضان متعمداً أو مقصوداً، ولكن ظروف المعركة وضرورات القتال هي التي فرضت خوضها، كذلك فإن بعضاً من المعارك التي انتصر فيها المسلمون أفطر فيها المسلمون كنوع من تحقيق القوة في القتال، كما أن المسلمين في المعارك التي انتصروا فيها توافقوا مع سنن النصر في الجمع بين استمداد العون من السماء، والتماس أسباب القوة المادية من الاستعداد الأفضل، حسب قدراتهم، وتبني الخطط الأنجع في القتال، والاستفادة من عناصر قوتهم ليضربوا بها مناطق ضعف العدو، لذا كان النصر حليفهم.


اقرأ أيضاً: غزة.. وشهر الانتصارات


أما المعارك التي انهزم فيها المسلمون، فهم لم يكونوا الأتقى، ولا الأفضل استعداداً ولا الأحسن تخطيطاً، ولا الأكثر جهوزية للقتال، ولكن كان الانقسام له مكان في النفوس وبين القادة والجند، وكانت المعاصي في بعض الأحيان متوغلة في الصفوف، ومن الناحية العسكرية كانت العشوائية حاضرة، وضعف الاستخبارات، وحالة الاسترخاء وقت المعركة؛ لذا حُرموا من الانتصار، ولم يستفيدوا من القوة المعنوية الرمضانية.

- «بلاط الشهداء» (رمضان 114هـ/ نوفمبر 732م): هذه المعركة بدأت في نهاية شعبان 114هـ، واستمرت قرابة 8 أيام، وحسمت في رمضان، بعد هزيمة الجيش المسلم بقيادة عبدالرحمن الغافقي، وانسحابه من المعركة، وحسب آراء المؤرخين في أسباب تلك الهزيمة، أن الجيش المسلم كان يعاني من حالة انقسامية عميقة بسبب ما جرى من فتن في الأندلس، قسمت الصف المسلم بين عرب وبربر، وقسمت العرب بين قيسية ويمنية، حيث سبقت المعركة دماء غزيرة في الأندلس، تركت بصمتها في نفوس الجند، فلم يكونوا صفاً واحداً.

- الفشل أمام أسوار فيينا (20 رمضان 1094هـ/ 12 سبتمبر 1683): تعد هزيمة العثمانيين أمام أسوار فيينا من الهزائم التي أثرت في مسار التاريخ، ولم تكن هزيمة عابرة.

أرادت الدولة العثمانية الاستيلاء على فيينا، عاصمة الإمبراطورية النمساوية، وجهز الصدر الأعظم قرة مصطفى باشا جيشاً ضخماً، وانطلق من المجر بجيش قوي يزيد على 160 ألف جندي، دون أن يستشير السلطان العثماني محمد الرابع، الذي كان يرى أهمية الاستيلاء على بعض القلاع القريبة من الحدود الألمانية، ثم التوجه في العام التالي نحو فيينا، وكان ذلك الانقسام الأول، أما الثاني فكان انسحاب قوات تتار القرم بقيادة الخان مراد كيراي من الجيش العثماني، وكان بين كيراي والصدر الأعظم أحقاد وضغائن.


اقرأ أيضاً: رمضان في فكر المقاومة.. شهر التضحية والانتصار


فقد كلفت قوات تتار القرم بحراسة جسر «الدونة» للحيلولة دون تقدم الجيش البولوني والقوات المسيحية لإنقاذ القلعة المحاصرة، وكانت الأوامر بمنع عبور العدو، ونسف الجسر عند الضرورة، وهو ما لم يحدث، فقد سمح كيراي للقوات النصرانية بالعبور دون أن يعترضها.

كان ظن كيراي أن هزيمة الصدر الأعظم وفشله أمام فيينا سيجعله يرحل عن السلطة، ولم يخطر بباله أن خسارة كهذه ستكون من الهزائم المفصلية في التاريخ، وستغير مجرى التاريخ العالمي، وليس تغيير شخص ما من موقعه في السلطة.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة