ما سبقت فيه التربيةُ الإسلامية.. التربيةَ الإيجابية

رقية محمد

01 يوليو 2025

206

في السنوات الأخيرة، ذاع صيت «التربية الإيجابية» بين الأسر والمربين حول العالم، باعتبارها أسلوبًا تربويًّا حديثًا يركز على احترام الأطفال والتواصل الفعال معهم والتشجيع بدلًا من العقاب.

وحينما يُرى مربٍّ يستخدم أساليب تربوية إسلامية يُقال: إنه يتبع التربية الإيجابية، رغم أن أبسط تأمّلٍ في مبادئ التربية الإسلامية يُبيّن أن هذه المفاهيم قد تجذَّرت في الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا وبشكلٍ أشمل، فهو منهجٌ ربانيٌّ متكاملٌ لا زيغ فيه ولا خطأ.

وفي هذا المقال، نكشف أوجهَ السَّبْقِ الذي امتازت به التربيةُ الإسلامية على ما يُعرف اليوم بالتربية الإيجابية.

1- احترام حقوق الطفل وتخييره:

حينما يُخيّر المربي طفله في أمرٍ من حقوقه، كأن يترك لعبته أو نصيبه في شيءٍ، ربما استنكر الناس ذلك واتهموه بأنه يطبِّق التربية الإيجابية، وهو في الحقيقة يقتدي ويتأسى بأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث الذي رواه سهل بن سعد قال: أُتِيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقدحٍ فشرب، وعن يمينه غلامٌ هو أحدثُ (أصغر) القوم، والأشياخ عن يساره، فقال: «يا غلام، أتأذن لي أن أُعطي الأشياخ؟»، فقال الغلام: ما كنتُ لأُوثِرَ بنصيبي منك أحدًا يا رسولَ الله، فأعطاه إياه(1).

فاحترم النبي صلى الله عليه وسلم حقَّ الطفل في البدء به وخيّره، كما احترم اختيارَ الطفل وتمسُّكَه ببركة الشرب من يد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المراعاة تدل على حرص الإسلام على تربية الطفل على القوة في التمسك بحقوقه، والثقة بالنفس ليقول رأيه وسط الجموع، فما بالنا بتخيير الطفل فيما هو دون ذلك؟

2- الرفق واللين في التربية:

رغَّب الإسلام في الرفق عامةً وفي التربية خاصةً، وثمَّن ذلك كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة، إنَّ اللهَ رفيقٌ يُحبُّ الرفقَ، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه»(2).

فبين أن الجزاء على اللين والرفق أعظم من الجزاء على أي صفةٍ حميدةٍ أخرى، وقد كثرت المواقف في السُّنة التي تُعد تطبيقًا عمليًّا لهذا المبدأ، مثل:

- الشاب الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنى، فترفق به حتى رجع عن رغبته، ثم دعا له، فصار الشابُ من أصلح الناس.

- الأمر بالصلاة عند سبع سنين، وجعل العقاب عند العشر، حيث ذكر العلماء أن العقاب جاء بعد ثلاث سنوات من محاولات إصلاح الطفل ليقوم بعماد الدين (الصلاة)، ووضعت ضوابط للعقاب مثل النهي عن ضرب الطفل أثناء الغضب أو بشكلٍ مؤذٍ.

وعليه؛ فالتربية الإسلامية قد وضعت ضوابطَ دقيقةً للرفق والعقاب، وكيفية الموازنة بينهما.

3- التشجيع والتحفيز بدلًا من النقد:

حضَّ الإسلام على قول الحسن بين الناس، وأثاب على الكلام الطيب، وحذّر من عواقب الكلام الخبيث الذي قد يهوي بصاحبه في النار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالًا؛ يرفعه الله بها درجاتٍ، وإنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالًا؛ يهوي بها في جهنم»(3).

وفي السُّنة، نجد النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأصحابه ويشجعهم على الخير بدلًا من توبيخهم، مثل قوله لعبدالله بن عمر تشجيعًا له: «نِعْمَ الرجلُ عبدُ الله، لو كان يُصلِّي من الليل»، فلم يُوبخه على تقصيره، بل شجَّعه وركَّز على الخيرية التي ستحصل له بقيام الليل، لذا؛ يجب على كل مربٍّ أن يتخيَّر من الكلام أطيبه، ليقوّي شخصية أطفاله.

4- توفير بيئة آمنة وصالحة للطفل:

اهتم الإسلام ببيئة الطفل منذ ولادته، فأمر بالأذان في أذنه، ثم تحنيكه واختيار اسمٍ حسنٍ له، كما حثَّ على إرضاع الأم لطفلها، وجعل الفطام بالتشاور بين الوالدين، وأمر بتقبيل الأطفال وحملهم حتى في الصلاة، فقد بينت السُّنة أن النبي صلى الله عليه وسلم يُقبِّل الحسن والحسين، ويحمل أمامة بنت زينب في الصلاة، كل ذلك مما حرص عليه الإسلام ليُؤمِّن للطفل بيئةً صالحةً تحفظ فطرته، وتعطيه حبًّا غير مشروطٍ، فينشأ قويَّ الإيمان، سليمَ النفس والبدن.

5- بناء الوعي الذاتي والمسؤولية عند الطفل:

عزَّز الإسلام وعيَ الطفل بذاته وربَّاه على تحمُّل المسؤولية، وهيَّأه عقائديًّا وإيمانيًّا منذ صغره ليقبل التكليف، كما قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر: 38)، فمن الضروري تنشئة الطفل على مبدأ المراقبة الذاتية والثواب والعقاب، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن عباس حين وعظه وهو غلام قائلًا: «يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك..»(4).

فعلَّمه أن الله يراه حتى لو لم يره أحد؛ ما يعزز وعيَه بذاته ومسؤولياته، فلا يعلّق أخطاءه على الآخرين.

إن من الإنصاف ألَّا يُقال لمَن تعلَّم التربية الإسلامية وسعى لتطبيقها: إنه يطبِّق التربية الإيجابية، فكيف يُردُّ المنهج الرباني الكامل إلى منهجٍ بشريٍّ؟ وكيف يُقارن وحيٌ لا يأتيه الباطل بمنهجيةٍ بشريةٍ تصيب وتخطئ؟! فعلى كل مربٍّ مسلمٍ أن يحرص على تعلُّم التربية من نبعها الصافي، ليُخرِج طفلًا مسلمًا سليمَ العقيدةِ والنفسِ والجسدِ، وكفى بهذا التشريف أن يكون منهجًا من لدن خالقٍ عليمٍ حكيمٍ.





________________

(1) رواه البخاري (2351).

(2) رواه مسلم (2593).

(3) رواه البخاري (6478).

(4) حديث صحيح رواه الترمذي (2516).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة