ما كل من لاث العمامة شيخاً!

في عام 1986م، كنت في السنة الأولى من الجامعة، وكان مقرراً علينا مادة «أدب بحث»، يأتي لتدريسها -منتدباً- فضيلة أ.د. فتحي أبو عيسى، أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالمنوفية يومئذ، وكان رحمه الله يجيد صياغة الجملة ونسج الحرف وسبك الكلمة، يمرق الكلام من فمه كما يمرق السهم من الوتر أعذب من الماء وأرق من الهواء، ويتحدث الفصحى بطلاقه كأنه رُبِّي في بيئة الخليل، وسيبويه، وكلماته كأنها إنذار مدمدم تحرك ساكناً وتوقظ نائماً وتنشط خاملاً وتحيي بالمعارف ميتاً.

من كلماته التي نقشت في ذاكرتي، قال مرة في إحدى محاضراته: لو كان للأزهر الشريف أن يفخر في تاريخه الطويل من يوم أنشئ وإلى يومنا هذا لكفاه فخراً إنجاب الشيخ محمد الغزالي، فله قلم يطاوعه؛ يحترق مع الحرف إخلاصاً، ويكتب بنبض قلبه صادقاً، ويعيش لدينه وهموم أمته ناصحاً ومدافعاً.

ودارت الأيام دورتها ورحل الشيخ الجليل إلى ربه حميد السيرة نقي السريرة.

عالِم رباني

العلماء الربانيون هم ورثة الأنبياء، وقرة عين الأولياء، وقناديل الضياء، وصلاح الأمة لا يكون راسخ البناء ولا جميل الطلاء إلا بتوقير هؤلاء الفضلاء؛ لقول رب الأرض والسماء: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) (فاطر: 28).

ولقد كان الشيخ الغزالي رحمه الله في مصاف النجباء الأتقياء، لما مات رثاه رجل من الكبار عاصره في حياته وعايشه في رحلته فقال: عرفت الشيخ الغزالي فعرفت رجلاً يعيش للإسلام وللإسلام وحده، لا يشرك به شيئاً ولا يشرك به أحداً، الإسلام لحمته وسداه، ومصبحه وممساه، ومبدؤه ومنتهاه، عاش له جندياً، وحارساً يقظاً، شاهر السلاح، فأيما عدو اقترب من قلعة الإسلام يريد اختراقها صرخ بأعلى صوته يوقظ النائمين وينبه الغافلين.

لم يركض وراء المناصب التي يتهافت عليها كثيرون ممن يلبسون لبوس أهل الدين.. إن لسان الشيخ لم يخلق ليهتف باسم مخلوق، بل ليهتف باسم الله وحده، ذاكراً له وتالياً لكتابه، وداعياً إلى دينه، ويد الشيخ لم تخلق لتصفق لزيد أو عمرو من الناس، بل لتمسك بالقلم سلاحاً تشهره في وجوه الطواغيت، وتنير بكلماته السبيل أمام طلاب الهداية في تيه الضلالات، وملتمسي النور في دنيا الظلمات(1).

علماء السوء

علماء السوء عندهم فصام نكد بين القول والفعل، وبين المدارسة والممارسة، لا يُصلحون ولا يتركون من يُصلح، مثلهم كمثل الصخرة في باب النهر لا تشرب ولا تترك مَن يشرب، كل واحد منهم أضر من ألف شيطان، وأخبث من سم الثعبان؛ لذا قال عنهم السلف: ذباب طمع وفراش نار.

ويبقى السؤال: إلى أدعياء المشيخة الذين يتقاتلون على لعاعة من الدنيا ويبذلون ماء الحياء من أجل الشهرة والمنصب؛ فيحلون حراماً ويحرمون حلالاً، وينكرون معروفاً ويقرون منكراً، ويعادون ولياً ويوالون عدواً، ويقهرون مظلوماً وينصرون ظالماً، ويجابهون نوراً وضياءً، ويبثون فتنة وضلالاً، وهم في مصاف المشايخ والعلماء.

هوِّنوا على أنفسكم، فما كل من لاث العمامة شيخاً؟!





____________________

 (1) الشيخ الغزالي كما عرفته رحلة نصف قرن، ص57 – 58.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة