قراءة في سلسلة «المشروع الحضاري الإسلامي» للدكتور عطية عدلان..
ما ينقص الحركة الإسلامية
الكتاب الأول: «منظومة القيم الحاكمة للمشروع الحضاري الإسلامي»:
مر على الحركة الإسلامية -بمجمل مكوناتها- ما يقرب من قرن من الزمان، وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، وفي هذا القرن قد بذلت الحركة جهدًا كبيرًا، وتركت آثارًا ملحوظة، وأثمرت ثمراتٍ يانعةً، على الصعيد الإيماني والتربوي والدعوي والسياسي والتنظيمي والخيري، وخرَّجت من الكوادر ما سد أفق الشمس؛ فكريًّا وإيمانيًّا، وتربويًّا ودعويًّا، وسياسيًّا واقتصاديًّا، وفرديًّا وأسريًّا واجتماعيًّا، ومحليًّا وإقليميًّا وعالميًّا، فتركت بصماتها في كل هذه المجالات، وفي كل تلك المستويات.
وهذا لا يعني بلوغ الكمال في كل كذلك، فهو جهد بشري على كل حال، يدخله الصواب والخطأ، والانحراف والاستقامة، والنقص والحاجة، ويؤخذ منه ويرد عليه، وينقص منه ويزاد عليه، وهكذا هي أعمال البشر، وجهود البشر، ولكن إذا بلغ الماء قُلَّتين لم يحمل الخبث، فكيف إذا كان بحرًا لا تُكدِّرُه الدِّلاءُ؟!
غير أن أكبر ما نقص الحركة الإسلامية عامة، وجماعة الإخوان المسلمين خاصة، عبر قرن من الزمان، هو وضع تصورات وإجراءات كلية تحوط المشروع الإسلامي من جميع جوانبه، وإن ادَّعتْ أن هناك أشياء تتعلق بذلك، لكنها عمومات ومبادئ لا تشفي العليل ولا تروي الغليل، ولا تسد خللًا ولا تكمل نقصًا؛ فلا يوجد لدى الحركة تصور لشكل الدولة، ولا شكل للنظام السياسي الذي يحكم الدولة، تلك الدولة التي ظلت في الخيال وفي الأحلام دون تقديم تصورات حقيقية عملية تفصيلية، ولا قدمت الحركة مشروعًا اقتصاديًّا تقدم به البديل للنظام العالمي، ولا نقول بديلًا وإنما الكشف عن النظام الاقتصادي الإسلامي العبقري المتميز الذي يحمل من المؤهلات ما يقود البشرية إلى الرفاه والشهود الحضاري.
ولا بينت آفاق المشروع الإسلامي الذي تنادي به وتسعى لتحقيقه وتمكينه، ولا أطره العامة، ولا منطلقاته أو ما يتعلق بمفاهيمه، فهذا في نظري أكبر ما ينقص الحركة الإسلامية: سؤال المشروع الحضاري الكبير المتضمن أسئلة متفرعة عنه: سؤال ماهية المشروع ومكوناته، وسؤال المشروع الفكري ومعالمه، وسؤال المشروع السياسي وشكل الدولة، وسؤال المشروع الاقتصادي وإجراءاته.
وفي هذا الإطار، يقدم فضيلة أ.د. عطية عدلان محاولة نظرية عملية، تأصيلية تطبيقية، تجمع بين إرساء معالم المشروع الحضاري الإسلامي بجوانبه المختلفة، مع تجاوز التنظير والتأطير إلى الدخول في تفصيلات كلية وجزئيات مهمة، وذلك في صورة سلسلة صدرت عن دار الأصول العلمية بإسطنبول مؤخراً، تتحدث عن جوانب هذا المشروع الحضاري، وهذه السلسلة تكتسب أهميتها –في نظري- من أمرين:
الأول: أنها تعتبر محاولة بكرًا بهذا الطرح، وبهذه الطبيعة التي يطرحها بها د. عدلان، جامعاً بين النظري والتطبيقي كما أسلفنا، ومبينًا تفصيلات ومعالم كل محور؛ ابتداء من الكشف عن جذرها العقدي والتشريعي الذي تنطلق منه وترجع إليه، وانتهاء بالتفصيلات الإجمالية المتعلقة بكل جانب من جوانبه، وإن الحركة الإسلامية –في نظري– أو أي عمل حركي تنظيمي ينشد رفعة الإسلام وتجديد الحركة له، أفقر ما تكون إلى هذا المشروع بجوانبه التي طرحت فيه، لا سيما بعد قرن من الزمان دون تسطير ما يشفي العليل ويروي الغليل في هذا الشأن.
والثاني: أن كاتب هذه السلسلة هو أ.د. عطية عدلان، فقيه أصولي، له إنتاجه المقدور في الفقه عامة والمعاملات خاصة، والفقه السياسي على وجه أخص، وهو في الوقت نفسه متمرس في مجال العمل السياسي والحزبي، فقد أنشأ وترأس حزبًا سياسيًّا إبان ثورة يناير المصرية «حزب الإصلاح»، وكان عضو البرلمان المصري في هذه الدورة، وهو أستاذ أكاديمي مارَس التدريس والتعليم والتربية، وهو داعية قام ولا يزال يقوم بمهمة الدعوة والخطابة منذ عقود من الزمان، وهو كاتب متمكن ومقتدر تقرأ ثمرات يراعه الدانية في النوافذ الإعلامية والصحفية المختلفة، كما تشاهد حلقاته التلفازية على فضائيات كثيرة، وهو مهموم بالدعوة إلى الإسلام، ومهتم بتجديد العمل الحركي والدعوي، ومن هنا تأتي هذه السلسلة التي نتحدث عنها، وفي هذا السياق تأتي قيمتُها وأهميتها.
أول كتاب يطالعنا به المؤلف في هذه السلسلة هو كتاب «القيم الحاكمة للمشروع الحضاري الإسلامي»، صدر عن دار الأصول العلمية في إسطنبول، الطبعة الأولى عام 2025م، وجاء في 128 صفحة.
وهذا الكتاب يعطي الأولوية الكبرى للقيم العليا المعيارية، التي تمتاز بها الأمة الإسلامية، تلك القيم الحاكمة التي تتحكم في تفسير القيم الإنسانية العامّة، وتتحكم كذلك في تحديد الوجهة العامّة لنظم الحياة؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتعليمية وغيرها، والمعالجةُ لهذه القيم ليست في البعد العقديّ لها، وإنّما في البعد القيميّ تحديدًا.
وقد اتضح من خلال مقارنتها بما يقابلها في الحضارة المعاصرة من قيم حداثية الفارق الواسع بين الجذرين، والبون الساشع بين التصورين؛ التصور الإسلامي، وتصور الحضارة الغربية الحداثية.
أسئلة الكتاب
في بداية الكتاب، يطرح المؤلف أسئلة مهمة هي الإشكالات التي قادته إلى الكتابة، وحاول عمل مقاربة للإجابة عنها: هل للمشروع الإسلاميّ قِيَمٌ حاكمةٌ عُلْيا يختص بها ويتميز بها عن غيره؟ وماذا عسى أن تكون هذه القيم المميِّزة المتميزة؟ وما الفرق بينها وبين القيم الإنسانية العامّة؟ ثم ما الفرق بينها وبين القيم المركزيّة التي تخص كل ميدان من ميادين الحضارة؟ وما أثر كل قيمة منها في التصور والسلوك وفي مناهج الحياة؟ وكيف نستطيع أن نراعي هذه القيم، وأن نستصحبها في كل منعطف على طريق البناء الحضاري؟ ولماذا لا نكتفي بالقيم التي جُربت من قبل وقامت بها حضارات قديمة ومعاصرة؟ وأين مصدر هذه القيم؟ ومتى يمكن تفعيلها بصورة تؤدي إلى وقوع آثارها؟
وقبل ذلك كله ما القيم أصلاً؟ وماذا تعني؟ وما الذي يميز القيم العليا الحاكمة على ما دونها من منظومة القيم المهيمنة على البناء والتصور والسلوك الحضاري الإسلامي؟
هذه الأسئلة وغيرُها استهدف البحث الإجابة عنها بشكل واضح، وبصورة مباشرة، وبمنهجية يغلب عليها الجمع بين التأصيل والتيسير.
معنى المشروع الحضاري الإسلامي
وقبل أن يتحدث المؤلف عن هذه القيم الحاكمة طرح سؤالًا جذريًّا وتأسيسيًّا: ما المشروع؟ ولماذا وصفناه بالحضاري الإسلامي؟
ويجيب عدلان عن ذلك بأن المشروع هو «المخطَّط الذي يُرْسَم ويُوْضَع للشيء قبل الشروع في تنفيذه؛ بحيث يتم التنفيذ على هدى من تصور سابق دون ارتجال ولا اضطراب»، وأمّا الحضاري فهو وصف منتزع من مصطلح الحضارة، وهو يعني «مجموعة المظاهر المادية والمعنوية التي تتميز بالرقيّ والسمو، التي تعبر بها كل أمّة عن ثقافتها»، والحضارة والمدنية مصطلحان متقاربان في المعنى، غير أنّ الحضارة أوسع دلالة؛ لكونها تشمل مع الجانب المادِّيّ الذي يدل عليه مصطلح المدنيّة جانبًا آخر معنويًّا، قد يكون غالبًا أو العكس؛ بحسب القيم والتصورات والمنطلقات والغايات التي تقوم عليها حضارة من الحضارات.
فالمشروع الإسلاميّ إذَنْ هو: «وضع الخطط والإستراتيجيات والمنهجيات التي ترسم بوضوح طريق الوصول بالأمة الإسلامية إلى مستوى الحضارة الإنسانية القائمة على الدين الإسلاميّ، مع الشروع في تنفيذ هذا الذي تم وضعه ورسم معالمه، ثم المضي فيه خطوة خطوة حسب المخطط المرسوم، وذلك كله وفق ما شرعه الله تعالى، ولغاية تحقق للإنسان وظيفتي العبادة والاستخلاف في الأرض».
المشروع الإسلامي يجمع بين النظري والعملي
ويؤكد المؤلف أنّ المشروع الإسلاميّ لا ينحصر في الجانب النظريّ فقط، وإنّما يشمل مع الجانب النظريّ جانبًا عمليًّا يتطور عبر المراحل بحسب معطياتها وحاجتها، وعلى نور من الوحي الإلهي والشريعة الربانية، وإن كنّا هنا معنيين بالجانب النظريّ وحسْب؛ لكون التنظير -طال أو قصر- أمرًا سابقًا على التنفيذ العمليّ قطعًا، لكنّ الخطر يكمن في المبالغة في التنظير مع تأخير الشروع في التنفيذ.
وبالطبع يهدف المشروع الإسلامي -فيما يهدف- إلى تمكين الأمّة الإسلامية وإظهار الدين الإسلاميّ، والخروج بالأمّة من حال الاستضعاف إلى التمكين، وبالدين من حال الخفوت إلى الظهور والسيادة، وما يستلزمه ذلك من التحرر من الهيمنة المفروضة على الأمة في كافّة المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية وغير ذلك، وما يستتبعه من بسط سيادة الشريعة وفرض سلطان الإسلام ودفع الفتنة عن كاهل الخلق؛ لإخراجهم من العبودية للأهواء إلى العبودية لرب الأرض والسماء.
من أجل هذا كان الحديث عن هذا المشروع والكتابة فيه والتنظير له؛ حيث يتطرق إلى كل ما له تعلق به: من منطلقات وغايات، ومن مراحل وتحديات وروافع، ومن طروحات مؤصلة شرعيًّا وواقعيًّا في كافّة الميادين السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية والتربوية والأبيستمولوجية، ومن آليات للتغيير، وتقنيات للتثوير، وأدوات للضغط والتحرير.
القيم التسع الحاكمة
وفي هذا الإطار تحدث عدلان عن القيم التي يراها حاكمة في المشروع الحضاري الإسلامي، وقد عدها 9 قيم، هي: الإيمان بالغيب، التوحيد، الإسلام، الإحسان، الاتباع، الاستخلاف، الأمانة، المسؤولية، الإنسانية.
وعرف القيمة بأنها «مجموعةٌ من المبادئ والقواعد التي تعملُ منطلقاتٍ وموجهاتٍ لسلوك الإنسان.. ومن خلالها يتمُّ الحكمُ على الأفكارِ والأشياء والأشخاص والتصرفات».
وجعل كل قيمة من هذه القيم في مبحث؛ فجاء الكتاب في 9 مباحث، وزاد عليها واحدًا تحدث فيه عن القيم العامّة، كالعدل والحرية، على الرغم من كونها تختلف عن العليا الحاكمة، فإنها من قبيل التذييل بما لا يصح إهماله، ويشمل البيان حاكمية هذه القيم العليا، كما يشمل المقارنة بين كثير منها وبين القيم العليا الحاكمة للحضارة الغربية المعاصرة، مع بسط بحسب المقام للآثار المترتبة على كل قيمة من هذه القيم، وقد يجد القارئ في نفسه بعض التحفظ على بعض هذه القيم، من جهة أنّ لها وجوهًا أخرى سوى كونها قيمًا، لكن عند القراءة لكل قيمة على حدة سوف تتجلى المسألة ويزول الإشكال.
وقد رأى الكاتب –وفقه الله- أن هذه القيم قيمٌ رئيسة معيارية؛ لأنّ كل قيمة منها تُعَدُّ أصلًا كبيرًا يقاس عليه، وتنبثق منه قيمٌ تخصصية ومبادئُ عامة وقواعدُ كلية وأحكامٌ تفصيلية، وهي أيضاً قيمٌ عليا؛ لأنّها الحاكمة على جميع ما ينبثق عنها ويبنى عليها، فما انسجم معها كان أولى بالقبول، وما اضطربت علاقته بها كان أولى بالرد والإبطال، ثم هي بعد ذلك منظومة متسقة متماسكة آخذ بعضها برقاب بعض في نسق محكم لا اضطراب فيه ولا اختلال؛ لأنّها تصدر عن الوحي المعصوم، وتتآلف مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي في مجموعها تمثل المعالم الرئيسية للصراط المستقيم؛ (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (الشورى: 53).
إن قراءة هذا الكتاب تترك في نفس القارئ وعقله معنًى كبيرًا مؤداه أنّ معرفة هذه القيم غاية في الأهمية لبناء مشروع حضاريّ قائم على مبادئ الإسلام، فلا يمكن لمشروع حضاري عملاق مثل المشروع الإسلامي أن يقوم بلا قيم حاكمة تتغلغل في كل جنبات الحياة الإسلامية بنظمها المختلفة ومجالاتها المتنوعة، فإن أبرز ما يمز الإسلام هو الأخلاق، وهذه القيم هي الحاكمة على كل شيء، والحارسة لكل مجال، فقد جاء هذا الدين ليحكم الحياة ويحرسها بعينه.