متى يتوب المسلم؟

يفرح الله بتوبة عبده، ويقبلها منه، فيغفر بها سيئاته، ويرفع درجاته، ويدخله جنته؛ لذا يبادر المسلم بالتوبة إلى الله تعالى، فما أهم المواطن التي دعا الإسلام فيها المسلم أن يبادر بالتوبة إلى الله تعالى؟

1- بعد الذنب:

أوضح الله تعالى أن من صفات المتقين الذين يدخلهم في جنته أنهم إذا وقعوا في الذنب؛ تابوا واستغفروا، حيث قال الله عز وجل: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {135} أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (آل عمران).

وإن المسلم يتوب بعد الذنب طمعاً في قبول التوبة وتحقيق المغفرة من الله عز وجل، فالله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، قال عز وجل: (وَهُوَ الَّذِي ‌يَقْبَلُ ‌التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) (الشورى: 25).

كما يتوب المسلم بعد الذنب حتى لا يسود قلبه ويغطيه الران، فيحجب عن الله تعالى، ففي سنن ابن ماجه، ومسند أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ، صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ زَادَ، زَادَتْ، فَذَلِكَ ‌الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين: 14)».

وقد جاء في الآية التي تلي آية الران قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ ‌لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين: 15)، فالران الذي يسيطر على القلب؛ يحجبه عن ربه تعالى، لذا كانت التوبة أداة الإزالة لهذا الران، والوصال مع الله عز وجل.

ومن دواعي التوبة بعد الذنب أن يحصل التائب على الخيرية التي وعد النبي صلى الله عليه وسلم بها التائبين، ففي سنن الترمذي عَنْ أَنَس بن مالك، أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ ‌وَخَيْرُ ‌الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ».

2- قبل العبادة:

بيّن الله تعالى صفات المؤمنين والمؤمنات في القرآن، وذكر في ترتيبها التوبة قبل العبادة، ففي وصف المؤمنين، قال تعالى: (‌التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة: 112). وفي وصف المؤمنات، خير النساء، قال عز وجل: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ ‌تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) (التحريم: 5).

والتوبة قبل العبادة تعتبر بمثابة التهيئة والإعداد للإقبال على الله تعالى، كمن يخلي قلبه من الشرور والآثام ثم يحليه بالطاعة والعبادة، كما أن التوبة تهيئ القلب للعبادة، كمن يصلي السُّنة قبل الفريضة، يستحضر بها خشوعه وخضوعه لله تعالى.

3- بعد العبادة:

إن الناظر في القرآن والسنة يجد أن المسلم يستغفر الله بعد العبادات، ففي قوله تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المزمل: 20)، نجد أن المسلم بعد الصلاة والزكاة والجهاد والإقراض مأمور بالاستغفار، وبعد أداء المناسك في الحج، حيث قال تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ‌وَاسْتَغْفِرُوا ‌اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة: 199).

والداعي إلى التوبة والاستغفار بعد العبادة أن الِاسْتِغْفَار يُخْرِجُ الْعَبْدَ ‌مِنْ ‌الْفِعْلِ ‌الْمَكْرُوهِ، إلَى الْفِعْلِ الْمَحْبُوبِ مِنْ الْعَمَلِ النَّاقِصِ إلَى الْعَمَلِ التَّامِّ وَيَرْفَعُ الْعَبْدَ مِنْ الْمَقَامِ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى مِنْهُ وَالْأَكْمَلِ؛ فَإِنَّ الْعَابِدَ لِلَّهِ وَالْعَارِفَ بِاَللَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَلْ فِي كُلِّ سَاعَةٍ بَلْ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ يَزْدَادُ عِلْمًا بِاَللَّهِ.

وَبَصِيرَةً فِي دِينِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ بِحَيْثُ يَجِدُ ذَلِكَ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَنَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ وَقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَيَرَى تَقْصِيرَهُ فِي حُضُورِ قَلْبِهِ فِي الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةِ وَإِعْطَائِهَا حَقَّهَا فَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِغْفَارِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ؛ بَلْ هُوَ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ دَائِمًا فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَحْوَالِ فِي الغوائب وَالْمَشَاهِدِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصَالِحِ وَجَلْبِ الْخَيْرَاتِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّاتِ وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي الْقُوَّةِ فِي الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الْيَقِينِيَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ(1).

4- في كل وقت:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم على الاستغفار ويحث عليه، فقد روى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، استغفروا الله وتُوبُوا إليه، فإنِّي أستغفر الله وأَتُوبُ إليه في اليَومِ أكْثَرَ مِن سَبْعِينَ مَرَّةً»، وفي رواية: «فإنِّي أَتُوبُ في اليَومِ إلَيْهِ مِئَةَ مَرَّةٍ».

فالتوبة لا يشترط أن تكون من ذنب، بل هي في حد ذاتها عبادة لله تعالى، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمن خلال التوبة يرتفع المؤمن في الدرجات ويتبوأ أعلى الجنات.

 

 

 

 

___________________

(1) مجموع الفتاوى: ابن تيمية (11/ 696).


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة