إعداد الدعاة في الحضارة الإسلامية (25)
محاسبة النفس ومداومة التوبة
قال الجنيد:
دخلت على السري السقطي يوماً فرأيته متغيراً، فقلت له: ما لك؟ فقال: دخل عليَّ شاب
فسألني عن التوبة، فقلت له: ألّا تنسى ذنبك(1)؟ أي أن تداوم محاسبة
نفسك عليه، وتكثر التوبة منه، وتخاف أن يكون عائقاً أمامك في طريق الوصول إلى رب
العالمين، وهذا الموقف يكشف حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على محاسبة النفس
ومداومة التوبة.
مظاهر حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على محاسبة النفس ومداومة التوبة
1- الحث الدائم على المحاسبة والتوبة:
روى الترمذي
عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، قَالَ: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا،
وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الحِسَابُ يَوْمَ
القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا»، وفي «موطأ» مالك عن أنس
قال: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَوْمًا، وَقد خَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى
دَخَلَ حَائِطًا، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ جِدَارٌ، وَهُوَ فِي
جَوْفِ الْحَائِطِ: «عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، بَخٍ بَخٍ،
وَاللَّهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ لَتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ، أَوْ
لَيُعَذِّبَنَّكَ».
2- اعتقاد وجوب التوبة من كل ذنب وعلى كل حال:
أوضح النووي أن
العلماء قالوا: التَّوْبَةُ وَاجبَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْب(2)، وهي
واجبة كذلك في كل حال، قال عبدالله التميمي: هناك تائب يتوب من الزلات، وتائب يتوب
من الغفلات، وتائب يتوب من رؤية الحسنات(3)، فالتوبة ليست من إتيان
كبائر الذنوب، بل هي على قدر كل إنسان في صلته بربه، فهناك مؤمن يذنب ويتوب، ومؤمن
يغفل فيتوب، ومؤمن يستشعر أنه طائع عابد، فيتوب من رؤية حسناته، وكلها مقامات
عالية.
3- تعميم التوبة على جميع الجوارح:
قال ذو النون
المصري: على كل جارحة لابن آدم توبة، فتوبة القلب: أن ينوى ترك المحظورات، وتوبة
العينين: الغض عن المحارم، وتوبة اليدين: ترك تناول ما لا يحل، وتوبة الرجلين: ترك
السعي في الملاهي، وتوبة السمع: ترك الإصغاء إلى الباطل، وتوبة الفرج: القعود عن
الفواحش(4).
4- الحرص على بيان معنى التوبة النصوح:
قَالَ
الْحَسَنُ: التوبة النَّصُوحُ: أَنْ يُبْغِضَ الذَّنْبَ الَّذِي أَحَبَّهُ،
وَيَسْتَغْفِرَ مِنْهُ إِذَا ذَكَرَهُ، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي لَا يَثِقُ
بِقَبُولِهَا وَيَكُونُ عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا(5)؛ لذا فإنه يداوم عليها
ويكثر منها، وقال الجنيد: التوبة أن تقبل على الله بالكلية كما أعرضت عنه بالكلية،
وقال سهل بن عبد الله: التوبة هي الندم والإقلاع والتحول عن الحركات المذمومة إلى
الحركات المحمودة(6).
5- تذكر الذنوب ومحاسبة النفس عليها:
عن سلمة بن
منصور، عن مولى لهم كان يصحب الأحنف بن قيس، قال: كنت أصحبه فكان عامة صلاته
بالليل الدعاء، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه ثم يقول: حس، ثم يقول: يا حنيف،
ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا(7)؟
6- البكاء خوفاً من عواقب الذنوب:
قال أبو جعفر
البقَّال: دخلت على أحمد بن يحيى رحمه الله، فرأيته يبكي بكاءً كثيراً ما يكاد
يتمالك نفسه! فقلت له: أخبرني: ما حالك؟! فأراد أن يكتمني فلم أدعه، فقال لي:
فاتني حزبي البارحة! ولا أحسب ذلك إلا لأمر أحدثته، فعوقبت بمنع حزبي، ثم أخذ يبكي(8).
وروي عن سلمة بن
سعيد، أن زياداً ضحك ذات يوم حتى علا صوته، ثم قال: أستغفر الله، وبكى بكاءً شديداً،
فقال له جلساؤه بعد ذلك المجلس: ما رأينا بكاءً في إثر ضحك أسرع من بكائك بالأمس
قال: إني والله ذكرت ذنباً أذنبته، كنت به حينئذٍ مسروراً، فذكرته، فبكيت خوفاً من
عاقبته ثم بكى(9)، وقال يحيى بن معاذ: علامة التّائب إسبال الدّمعة
وحبّ الخلوة والمحاسبة للنّفس عند كلّ همّة(10).
7- الاعتقاد بأن التوبة أحسن الأعمال:
قال عاصم
الأحول، قال لي فضيل الرقاشي: يا هذا، لا يشغلنك كثرة الناس عن نفسك، فإن الأمر
يخلص إليك دونهم، ولا تقل: اذهب ها هنا وها هنا ينقطع عني النهار، فإنه محفوظ
عليك، وما رأيت قط أحسن طلباً ولا أسرع إدراكاً من حسنة حديثة لذنب قديم(11)،
وقال الْحَسَن البصري: إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ بِخَيْرٍ مَا كَانَ لَهُ وَاعِظٌ
مِنْ نَفْسِهِ وَكَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ مِنْ هِمَّتِهِ(12).
دوافع حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على دوام التوبة
1- التوبة ترقق القلب وتحفظه:
عَنْ عَوْنِ
بْنِ عَبْدِاللَّهِ أن عُمَر بْن الْخَطَّابِ قَالَ: جَالِسُوا التَّوَّابِينَ فَإِنَّهُمْ
أَرَقُّ أَفْئِدَةً(13)، وقال ابن القيم: من أراد صفاءَ قلبه
فليُؤْثِر الله على شهوته(14)، فالتوبة هي السبيل إلى رقة القلب وصفائه،
وقال ابن القيم: كَمَا أَنَّ الْبَدَنَ لَا يَكُونُ صَحِيحًا إِلَّا بِغِذَاءٍ
يَحْفَظُ قُوَّتَهُ، وَاسْتِفْرَاغٍ يَسْتَفْرِغُ الْمَوَادَّ الْفَاسِدَةَ
وَالْأَخْلَاطَ الرَّدِيَّةَ، الَّتِي مَتَى غَلَبَتْ أَفْسَدَتْهُ، وَحِمْيَةٍ
يَمْتَنِعُ بِهَا مِمَّا يُؤْذِيهِ وَيَخْشَى ضَرَرَهُ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا
تَتِمُّ حَيَاتُهُ إِلَّا بِغِذَاءٍ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ
الصَّالِحَةِ، تَحْفَظُ قُوَّتَهُ، وَاسْتِفْرَاغٍ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ،
تَسْتَفْرِغُ الْمَوَادَّ الْفَاسِدَةَ وَالْأَخْلَاطَ الرَّدِيَّةَ مِنْهُ،
وَحِمْيَةٍ تُوجِبُ لَهُ حِفْظَ الصِّحَّةِ وَتَجَنُّبَ مَا يُضَادُّهَا(15).
2- المحاسبة والتوبة سبيل إلى التقوى:
روى الترمذي
عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: لَا يَكُونُ العَبْدُ تَقِيًّا حَتَّى
يُحَاسِبَ نَفْسَهُ كَمَا يُحَاسِبُ شَرِيكَهُ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ
وَمَلْبَسُهُ.
3- التوبة صفة المؤمنين:
قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا
الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31)، وقد علق القشيري على هذه الآية بقوله: التوبة صفة
المؤمنين(16)، وقد أوضح ابن مسعود أن المؤمن يخاف من ذنوبه مهما كانت
صغيرة، فيبادر إلى التوبة منها، ففي صحيح البخاري عن عبدالله بن مسعود قال: إِنَّ
الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ
يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى
أَنْفِهِ.
4- التوبة من أفضل مقامات السالكين:
قال ابن القيّم:
التّوبة من أفضل مقامات السّالكين؛ لأنّها أوّل المنازل، وأوسطها، وآخرها، فلا
يفارقها العبد أبداً ولا يزال فيها إلى الممات، وإن ارتحل السّالك منها إلى منزل
آخر ارتحل به، ونزل به، فهي بداية العبد ونهايته، وحاجته إليها في النّهاية
ضروريّة، كما حاجته إليها في البداية كذلك(17).
5- مداومة التوبة تكشف قبح المعصية:
قال إبراهيم بن
أدهم: إنك إذا أدمنت النظر في مرآة التوبة بان لك قبيح شين المعصية(18).
6- مداومة التوبة تفتح أبواب الطاعة ورضا الله:
قال أبو حازم:
عند تصحيح الضّمائر تغفر الكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أمّه الفتوح(19)؛
وهي فتوح العمل الصالح، وقَالَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ بِشْرٍ سَمِعْتُ ابْنَ
عُيَيْنَةَ يَقُوْلُ: غَضَبُ اللهِ دَاءٌ لَا دوَاءَ لَهُ، قُلْتُ: دواؤُهُ
كَثْرَةُ الاسْتِغْفَارِ بِالأَسحَارِ، وَالتَّوبَةُ النَّصوحُ(20).
7- خير أيام العبد يوم توبته:
قال ابن القيم:
خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يوم توبته إلى الله وقبول الله توبته،
لقوله صلى الله عليه وسلم: «أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك»، فإن قيل:
فكيف يكون هذا اليوم خيراً من يوم إسلامه؟ قيل: هو مكمِّل ليوم إسلامه ومِن تمامه،
فيومُ إسلامه بداية سعادته ويومُ توبته كمالها وتمامها(21).
_____________________
(1) الغنية
لطالبي طريق الحق: عبدالقادر الجيلاني (1/ 268).
(2) رياض
الصالحين، ص 33.
(3) الغنية: الجيلاني
(1/ 269).
(4) مكفرات
الذنوب، ص 32.
(5) تفسير
القرطبي (18/ 197).
(6) مكفرات
الذنوب، ص 30.
(7) صفة الصفوة
(2/ 117).
(8) الفوائد
والزهد: جعفر الخلدي (33/ 24).
(9) الرقة
والبكاء: ابن أبي الدنيا، ص 140.
(10) ذم الهوى: ابن
الجوزي، ص 174.
(11) حلية
الأولياء (3/ 120).
(12) محاسبة
النفس: ابن أبي الدنيا، ص 25.
(13) روضة
العقلاء: ابن حبان، ص 31.
(14) الفوائد
(1/ 142).
(15) الداء
والدواء، ص 109.
(16) الرسالة
القشيرية (1/ 211).
(17) مدارج
السالكين (1/ 198).
(18) تاريخ دمشق
(6/ 335).
(19) حلية
الأولياء (2/ 230).
(20) سير أعلام
النبلاء (10/ 50).
(21) زاد المعاد
(3/ 737).