مسلمون خلف الذاكرة (2)
محنة مسلمي الروهنجيا في بورما.. الاقتلاع من الجذور!
يعاني المسلمون
الروهنجيا في إقليم آراكان الواقع غربي بورما (ميانمار) من عمليات إبادة وتشريد
وتنكيل متواصلة منذ عقود طويلة على يد حكومة ميانمار الفاشية، وقد انطلقت مؤخراً
موجة جديدة من حملة الإبادة هذه بمجزرة لعشرة من العلماء، تبعتها موجات أخرى من
القتل وحرق أحياء وقرى كاملة في أوسع عملية إبادة ممنهجة بحق قرابة نصف مليون مسلم،
هم كل من تبقى من أكثر من 4 ملايين مسلم روهنجي تم تشريدهم حول العالم بعد فرار
جماعي من ديارهم (آراكان) عبر الخليج البنغالي إلى حدود الدول المجاورة.
وتؤكد الأحداث
أن هدف النظام الميانماري البوذي من تلك الحملات ضد المسلمين السعي للسيطرة على كامل
ديارهم وأراضيهم.
«الروهنجيا» عرقية بولاية راخين تصنفهم
الأمم المتحدة بأنهم أكثر الجماعات اضطهاداً بالعالم
ولم تكن الحملة
الأخيرة بحق المسلمين في آراكان التي كانت يوماً دولة مسلمة مستقلة منذ القرن
السابع الميلادي، لكن حملات التطهير العرقي الدموية توالت على شعبها المسلم منذ
احتلال بورما البوذية لها في القرن الثامن عشر الميلادي (عام 1748م).
وقد كان عام
1942م موعداً مع ارتكاب بورما البوذية أولى أبشع المذابح وأوسعها التي راح ضحيتها
أكثر من 100 ألف مسلم، ثم بدأت القوات البوذية مسلسل تفريغ آراكان من أهلها بتهجير
1.5 مليون مسلم من أراضيهم بين عامي 1962م و1991م إلى بنجلاديش الدولة المسلمة
الأقرب لحدودها، ومن بقي في دياره عاش تحت مقصلة القمع فاقداً لحقوق المواطنة.
ولم تعترف سلطات
بورما -التي يحكمها الجيش- بعرقية سكان آراكان المسلمة (الروهنجيا) رغم المطالبات
الدولية المستمرة بهذا الاعتراف، لكن النظام الحاكم في ميانمار يصر على اعتبارهم
أغراباً تعود جنسيتهم إلى بنجلاديش، رغم أنهم يعيشون على هذه الأرض منذ قرون.
وعلى الرغم من
مناقشة قضية المسلمين (الآراكانيين الروهنجيين) من قبل الأمم المتحدة ومنظمة آسيان،
ومنظمة التعاون الإسلامي منذ عقدين؛ فإن وضعهم البائس لم يتغيّر، بل يزداد سوءاً.
النظام الميانماري العسكري البوذي يسعى للسيطرة
على كامل ديار الروهنجيا وأراضيهم
وفي ظل هذا
التواطؤ الدولي والخذلان الإسلامي، تتواصل حملات تهجير المسلمين الروهنجيا والقذف
بهم في عرض البحر على سفن متهالكة، بلا طعام ولا شراب، في رحلة إلى المجهول، وقد
وصلوا إلى بنجلاديش التي تعد أقرب نقطة لحدودهم في حالة يرثى لها بين الحياة
والموت، بعد أن فارق الكثير منهم الحياة، بينما تتواصل عمليات الاضطهاد والقتل لمن
بقي منهم هناك.
من
هم؟
و«الروهنجيا»
اسم لقومية عرقية تنتمي إلى ولاية «راخين» الواقعة غربي بورما (ميانمار)، التي كان
يطلق عليها قديماً «آراكان»، وتصنفهم الأمم المتحدة بأنهم من أكثر الجماعات
اضطهاداً في العالم، وهو نفس الوصف الذي أعلنته المتحدثة باسم الأمم المتحدة عام
2009م.
ووفقاً لتعداد
عام 2014م، يمثل الروهنجيا 4.3% من إجمالي تعداد سكان بورما ذي الأغلبية البوذية
التي تمثل 87.9% من مجموع السكان، وتتضمن النسبة المتبقية حوالي 8% من النصارى
والديانات الأخرى.
ويعد المسلمون
الذين يعيشون في بورما منذ القرن الحادي عشر الميلادي هم الأكثر تعرضاً للاضطهاد
في ظل النظام العسكري الدكتاتوري الحاكم.
وقد وظهرت أولى
بوادر اضطهادهم لأسباب دينية عندما حظر الملك باينتوانغ في منتصف القرن السادس عشر
(1550 - 1589م) ممارسة الذبح الحلال للدجاج والمواشي، كما تم منع المسلمين من
الاحتفال بعيد الأضحى وذبح الأضاحي من الماشية، وإجبارهم على الاستماع إلى المواعظ
البوذية تمهيداً لإجبارهم على التخلي عن الإسلام الحنيف واعتناق البوذية.
الروهنجيا يتعرضون للابتزاز من قبل أجهزة
الأمن ويخضع العديد منهم للعمل القسري
تاريخياً، تم
التعامل معهم من قبل حكومة رئيس الوزراء البورمي يو نو (1948 – 1963م) كمواطنين، لكن
هذا الوضع تغير مع الانقلاب العسكري الذي وقع عام 1962م، فقد استمر عدد قليل منهم
في وظائف الدولة، بينما تم استبعاد معظمهم وكذلك المسيحيين من وظائفهم ومواقعهم في
الحكومة والجيش.
وفي عام 1982م، أصدرت
الحكومة قانوناً يحرم أي شخص غير قادر على إثبات أصله البورمي الذي يعود تاريخه
إلى ما قبل عام 1823م من الحصول على جنسية البلاد، وقد حرم هذا القانون أعداداً
كبيرة من المسلمين من حقوقهم، على الرغم من أنهم عاشوا في البلاد لعدة أجيال وعلى
امتداد قرنين من الزمان.
ومنذ عام 1948م،
شنت الحكومات المتعاقبة 13 حملة عسكرية عرقية وطائفية ضد الروهنجيا في أعوام 1975،
1978، 1989، 1991، 1992، 2002م، وقامت قوات الأمن خلال هذه الحملات بطرد الروهنجيا
من أراضيهم، وحرقت مساجدهم وارتكبت عمليات نهب وإحراق لممتلكاتهم مصحوبة باغتصاب
النساء على نطاق واسع قبل وأثناء طردهم خارج ديارهم إلى عالم الشتات.
طمس
الهوية في التعداد السكاني
وقد اتخذت
السلطات الحكومية إجراءات صارمة لطمس انتماء عرقية الروهنجيا في التعداد السكاني، وتصر
على إجبارهم على التخلي عن هذا الانتماء، كما قامت بحذف مصطلح الروهنجيا من
استمارة التعداد السكاني باعتباره مخالفاً للقانون، بل ويعاقب صاحبه بالسجن لمدة
عامين، كما أن ظهور كلمة «مسلم» في الهوية بدلاً من «بنغالي» يعرض صاحبها للاعتقال
أو الغرامة.
إقليم آراكان تحول إلى مسرح لعمليات قتل
بالجملة ما دفع مئات الآلاف للفرار لدول الجوار
وقد نقلت «وكالة
أنباء الروهنجيا» عينة من تهديدات المسؤولين الإداريين والأمنيين في خطاباتهم
للسكان، مثل: «نحن منزعجون كثيراً لأنكم تزعمون أنكم من الروهنجيا.. إن من يذكر
في التعداد السكاني أنه من الروهنجيا سنعاقبه بموجب القانون، ولن نستسلم حتى
نجعلكم تعترفون بأصولكم البنغالية»!
وغني عن البيان،
فإن الاعتراف المطلوب يثبت على الروهنجيا –بشهاداتهم- أنهم غرباء عن البلاد؛
وبالتالي يتم تجريدهم من المواطنة، ويحق للسلطات طردهم من البلاد، وما موجات الطرد
والنزوح المتتالية التي نتابعها إلا خطوة أخيرة بعد تجريد المواطنين من هويتهم
ووضعهم في خانة الأجانب المطلوب طردهم.
السخرة
وقد امتدت
عمليات الاضطهاد إلى كل المجالات، وتفرض السلطات حظراً شديداً على تواصلهم مع
وسائل الإعلام، كما تمنع ممارستهم للشعائر الإسلامية حتى ذبح الأضاحي، ومن يتمكن
من ذبح أضحيته يتم إرغامه على دفع رشى!
وبعيداً عن
الحملات العسكرية، يتعرض الروهنجيا للسرقة والابتزاز بشكل متواصل من قبل أجهزة
الأمن، كما يخضع العديد منهم للعمل القسري (السخرة)، وفي بعض الحالات تتم مصادرة
أراضي المسلمين وإعادة تخصيصها للبوذيين المحليين، ناهيك عن توقيف الشرطة لهم في
الشوارع ولا يتم إطلاق سراحهم إلا بعد دفع رشى أو غرامات مالية، ولا تتوقف عمليات
ابتزاز أموال المسلمين خاصة علماء الدين من قبل قوات الأمن، ومن يرفض يتم تهديده
بالسجن، وبين الحين والآخر تشن العصابات البوذية حملات ضارية على أحياء المسلمين.
وقد حذرت وكالات
الإغاثة الإنسانية من أن موسم الجفاف، الذي يمتد من شهر نوفمبر إلى مايو، يهدد
بإصابة عشرات الآلاف من النازحين داخلياً في ولاية راخين (آراكان) بأمراض خطيرة.
وتشير بيانات
مجموعة المياه والصرف الصحي والنظافة العامة إلى أن 40% من النازحين داخلياً
يحصلون على المياه من البرك (مياه آسنة)، بينما يستخدم 28% منهم المياه المعالجة،
في الوقت الذي يعاني فيه 7% من المقيمين في المخيمات من عدم الوصول بشكل كاف إلى
المياه، ويتم التضييق على عمليات العون والإغاثة القادمة من العالم الإسلامي.
السكان
والأقليات
ويعيش في بورما 9
أقليات، بينهم المسلمون الروهنجيا التي يبلغ تعدادها نحو مليون نسمة، يعيشون في
ولاية راخين الساحلية الغربية، وهم الأكثر بؤساً وحرماناً من حقوق المواطنة (الجنسية)،
وامتلاك الأراضي والتصويت في الانتخابات والسفر للخارج، وترزح أقلية الروهنجيا تحت
نير العبودية على يد الجيش الذي يقبض على البلاد بيد من حديد.
نصرة مسلمي الروهنجيا بآراكان فريضة شرعية
على المسلمين جميعاً وواجب إنساني وأخوي
وقد تحول إقليم آراكان
الذي تعيش فيه غالبية المسلمين إلى مسرح لعمليات قتل بالجملة؛ ما دفع مئات الآلاف
إلى الفرار إلى دول الجوار التي يرتبطون بها عرقياً؛ تايلاند البوذية وبنغلاديش
الدولة المسلمة، وعادة يتم إجبارهم -وبقسوة- على العودة إلى حيث أتوا من بورما، وإن
كانت الشرطة تتجاهل أحياناً أوامر الحكومة بمنع عبورهم إلى داخل البلاد.
واجب
العالم الإسلامي
وبعد، فإن
العالم الإسلامي؛ حكومات وشعوباً، مطالب بالخروج من صمته وعجزه، والتحرك لنصرة
هؤلاء المسلمين الأكثر اضطهاداً في العالم، وفق تقارير الأمم المتحدة، خاصة أن
العالم الإسلامي يمتلك من الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية والإعلامية
ما يمكنه من اتخاذ مواقف فعالة لإنصافهم، لكن المسألة تحتاج إلى إرادة سياسية قوية.
ولم يتفاعل مع
محنة الروهنجيا تفاعلاً إنسانياً ملموساً سوى السيدة أمينة أردوغان، زوجة الرئيس
التركي رجب طيب أردوغان، التي بادرت مع اشتداد التنكيل بالمسلمين هناك بزيارة لأحد
معسكرات لجوء الروهنجيا في بنجلاديش عام 2017م، حيث توجد أكبر معسكرات اللجوء هناك،
وتجولت فيه والتقت مع عدد كبير المهاجرين خاصة من النساء والأطفال، واستمعت إليهم
وتفاعلت مع محنتهم واختلطت دموعها بدموعهم.
وقد مثلت تلك
الزيارة لفتة فريدة شدت انتباه العالم، ولكنها -للأسف الشديد- لم تحرك الحكومات
العربية والإسلامية لتحذو حذوها، ولم تتحرك أي سيدة أولى أو أخيرة أو حاكم دولة
مسلمة، وما زال شعب الروهنجيا في آراكان يفتخر ويمتن للسيدة الأولى التركية على تلك
المبادرة التاريخية!
في التحليل
الأخير، فإن نصرة مسلمي آراكان –وكل المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها–
تعد فريضة شرعية على المسلمين جميعاً، وواجباً إنسانياً وأخوياً سيحاسب الله عليه
كل من يقصر فيه.