مراعاة الاحتياجات النفسية والعاطفية للأبناء

د. عادل هندي

30 سبتمبر 2025

69

في المقال السابق، تناولنا أحد أبرز أعمدة التربية الناجحة، وهو التوازن في علاج أخطاء الأبناء والبنات، وأكدنا أن الخطأ لا ينبغي أن يُواجَه دومًا بعقوبة، كما لا يجوز أن يُهمَل بحجة التفهُّم؛ بل لا بد من الجمع بين الحزم والرحمة، والإصلاح والانفتاح، بما يحقق التربية الإيمانية والنفسية السليمة.

إلا أن التوازن التربوي لا يكتمل إلا إذا نظر المربي إلى البُعد الداخلي وراء السلوك الظاهر، وهو ما نُكمله في هذا المقال عبر الحديث عن الأساس الخامس وهو مراعاة النفسية والاحتياجات العاطفية للأبناء؛ إذ لا يمكن للمربي أن يُصلح سلوكًا دون أن يراعي المشاعر، أو أن يُقوّم خطأً دون أن يُلبي احتياجًا مشروعًا في النفس.

إن النفوس البشرية، خاصة في مرحلة الشباب، متعطشة للتفهُّم، ويؤلمها الإهمال، ويُربكها الإنكار الجاف؛ لذلك اعتنت الشريعة بالنفس واحتياجاتها، وبيّنت الهدي النبوي في مراعاتها ضمن حدود الشرع ووسائل الحكمة.

ومن أروع ما يدل على ذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين راعى مشاعر الشباب، واحتياجات الفتيات، وحرص على صيانة دوافعهم النفسية دون تجاهل أو ازدراء، بل وجّهها بأسلوب راقٍ يجمع بين الفطرة والشرع، والتربية والتطمين.

إنَّ مراعاة النفسية من المربي نحو من يربيه مطلب من مطالب الفطرة السويّة؛ فإن النفس تحتاج لذلك لأنها طُبِعَت عليه، ولأهمية مراعاة نفسية الشباب والفتيات عمل النبي صلى الله عليه وسلم على تلبية الدوافع النفسية لهم، بما يباح ويُشْرَع، وأمثلة ذلك كثيرة، منها ما يأتي:

1- أنه عليه الصلاة والسلام أرشد الشباب إلى صيانة الدافع الجنسـي -وهو أحد الاحتياجات الفطرية للإنسان الطبيعي- وحثّ القادر منهم على الارتباط العاطفي والزواج الشـرعي، بقوله: «يَا مَعْشَـرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»(1)، وفي ذلك مراعاة لاحتياجات الشباب النفسية والعاطفية، وينبغي لأولياء الأمور في البيوت العمل على تيسير الزواج؛ رغبة في تأمين شبابنا وبناتنا من الانحراف.

2- مراعاة الاحتياج إلى ممارسة اللهو المُبَاح ومشاهدته أحيانًا: وقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعطي أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قدرًا من المراعاة لاحتياجها –وهي صغيرة السنّ- إلى أن تشاهد الأحباش وهم يلعبون بالعُصـيّ في المسجد.

فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ الحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ، فَسَتَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا أَنْظُرُ، فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ حَتَّى كُنْتُ أَنَا أَنْصَـرِفُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الجَارِيَةِ الحَدِيثَةِ السِّنِّ، تَسْمَعُ اللَّهْو»(2)، وليس بعجيب على هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمح بهذا أو أن يمنع امرأته الشابة الصغيرة من الاستمتاع بالمشاهدة للهو المُباح، يقول ابن حجر: «وقولها: اقدُروا بضم الدال من التقدير ويجوز كسرها، وأشارت بذلك إلى أنها كانت حينئذ شابة»(3).

3- مراعاة حقوق العلاقات الإنسانية وضوابطها: بحيث لا يخاصم الشاب أخاه أو يهجر زميله إلا لضـرورة، وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بإباحة الهُجران دون ثلاثة أيام؛ ففي الحديث عن أَنَس بْن مَالِكٍ، أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ»(4)، وتلك هي الواقعيَّة التربوية أنه لم يُحرّم ولم يُجرّم ما تنفعل به النفس مع مَن آذاها، لكنه حدّد زمنًا للهجر دون التطويل فيه.

وحين نغوص في فهم نفسية الأبناء ونُحسن قراءة مشاعرهم واحتياجاتهم، يظهر لنا أن الكلمة الطيبة، والنبرة الحانية، والعبارة المشجّعة، ليست فقط وسائل تواصل، بل أدوات تربية وبناء.


اقرأ أيضاً:

التوازن في علاج أخطاء الأبناء

من الأسس النفسية والوجدانية في عملية التربية النبوية




___________________

(1) صحيح البخاري: كتاب النكاح، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، لأَنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ» وَهَلْ يَتَزَوَّجُ مَنْ لاَ أَرَبَ لَهُ فِي النِّكَاحِ» (5065).

(2) صحيح البخاري: كتاب النكاح، بَابُ حُسْنِ المُعَاشَرَةِ مَعَ الأَهْلِ (5190).

(3) فتح الباري لابن حجر: ج2، ص445.

(4) رواه البخاري في الصحيح: كتاب الأدب، بَابُ مَا يُنْهَى عَنِ التَّحَاسُدِ وَالتَّدَابُرِ (6065) ورواه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، بَابُ النَّهْي عَنِ التَّحَاسُدِ وَالتَّبَاغُضِ وَالتَّدَابُرِ (2558).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة