مسلسل «معاوية» وأشياء أخرى

يثير العمل
الفني مسلسل «معاوية» عن حياة الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان، الكثير من
الجدل، لكن يبقى الواقع التاريخي مغايراً عن الدراما؛ لأننا أمام عمل فني تحكمه
قواعد وآليات تتدخل في صياغة الرواية التاريخية، ليبقى أمام أعيننا مَعلماً واضحاً،
أن هناك فرقاً بين «القصة التاريخية»، و«الرواية التاريخية».
عندما يُذكر
الصحابي معاوية بن أبي سفيان، يتورط الجميع - باستحضار ذهني موروث- في الخوض حول
ما قام به من أعمال سياسية، دون التأني والوقوف مع شخصية استطاعت أن تبقى في
السلطة، لمدة 40 عاماً (20 في الإمارة ومثلها في الخلافة).
لسنا هنا بصدد
تقييم المسلسل فنياً، أو تقييم سياسات معاوية، فهذا أمر قد قُتل بحثاً بين
المؤرخين، فحياة الصحابي الجليل أو أشهر قضاياه التي ملأت كتب التاريخ، وأجهدوا
فيها قرائحهم هي: «قتاله عليّاً وقتله حُجْراً بن عدي واستلحاقه زياداً واستخلافه
ابنه يزيد»(1).
لكن أكثر ما
يستحق البحث في شخصية الصحابي معاوية رضي الله عنه، هو وجوده في السلطة لمدة 40
عاماً، فكيف تمكن من البقاء طيلة هذه الفترة الصاخبة بالأحداث، وضبط منطقة ملتهبة
ومكتظة بالجواسيس، وأي مهارة إدارية كان يمتلكها، التي جعلت الجميع يخضعون لحكمه
طيلة 4 عقود، ما يكشف عن طبيعة هذه الشخصية الإدارية والقيادة الفريدة.
عبقرية
عمر
من المعلوم قطعاً
لدينا أن شخصية الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا تحابي أحداً، فضلاً عن
ذكائه وعبقريته في معرفة الأشخاص، وهي مسلّمة أكيدة من لوازم شخصية الفاروق عمر.
يبقى السؤال:
إذا كان الصحابي معاوية ليس من الأَكْفَاء في الإدارة، ولا يتمتع بصفات نادرة،
لماذا استعمله أمير المؤمنين عمر أميراً على الشام، بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي
سفيان، لتمتد إمارته 20 عاماً حتى تنازل الحسن بن على رضي الله عنهما له عن
الخلافة؛ ليبدأ 20 عاماً أخرى في السلطة؟
اقرأ أيضاً: مغالطات نوري المالكي بحق الصحابة في موازين العلم وقواعد الإنصاف والعقل (1)
تقرّبنا إحدى
الروايات التاريخية في قصة طويلة من مهارة إدارية فائقة، كان يتمتع بها الصحابي معاوية،
وهي التي جعلته محطّ إعجاب لدى شخصية بوزن عمر بن الخطاب.
تفيد الرواية
التاريخية أن عمر كان في تفتيش عام على الشام، فترة ما كان معاوية أميراً،
فاستقبله معاوية استقبالاً باهراً، حيث لم يعجب عمر زخم وإبهار هذا الاستقبال،
ودار بينهما حوار طويل وشيّق، ليكشف لنا عمر زاوية غير تقليدية في صفات الصحابي
معاوية وهي معرفته بالمصادر والموارد، حيث قال عمر لحسن موارده ومصادره: «جشمناه
ما جشمناه»؛ أي جعلناه متقلداً لهذه الأمور(2).
ومفاد الرواية
أن معاوية أعد موكباً لاستقبال عمر، وأثناء مروره اختبأ عمر بين الصفوف، حتى مرّ
معاوية؛ والذي فطن أن أمير المؤمنين اختفى بين الصفوف ليراقبه، وبالفعل وقع ما فطن
إليه؛ حيث فاجأه عمر بالخروج من الصف لينكر عليه أُبّهة الإمارة، وفي التوقيت نفسه
يترك الرعية تقف طويلاً على بابه، بحسب ما وصله عنه.
فجاء رد معاوية
أنه قام بذلك لأنه في مكان يكثر به جواسيس العدو، فأراد أن يظهر «عز وقوة الدولة»،
حتى لا يطمع في إمارته خصوم الدولة من الروم، ليرد عليه عمر رد المعجب بتصرفه
قائلاً: لئن كان ما قلت حقاً فإنه لرأي أَريب.. ولئن كان غير ذلك فإنها خديعة أديب.
وهنا يدخل طرف
ثالث في الحديث ليكشف المسكوت عنه في شخصية معاوية، وما يتمتع به من تألق إداري
ليقول هذا الشخص: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه، ليرد عمر
رداً نهائياً، كاشفاً وجه المهارة لدى معاوية قائلاً: لحسن مصادره وموارده جشمناه
ما جشمناه.
وهنا يُكشف لنا
جانب مضيء في حياة الصحابي معاوية، وهو أنه لا يدخل ولا يتخذ قراراً حتى يعرف كيف
يخرج منه، وهنا تختلف القدرات والمواهب، فمثلاً حينما يقرر أي شخص أن يقوم بعمل ما
فاتخاذ القرار سهل، لكن دراسته ومعرفته لنتائج هذا القرار، ومعرفة المكسب
والخسارة، والخروج من كل مأزق بسبب النتائج، هنا يظهر التألق والمهارة، وهي صفة
كانت نادرة في قيادة هذا الصحابي، وهو ما فطن إليه عمر في شخصيته، وأقرّه على
إمارة الشام مجدداً.
كسب
الخصوم
تاريخياً، كان معاوية
أيقونة في الحلم وكظم الغيظ وضبط النفس، حتى كانت العرب تقول: معاوية للمعضلة،
وعمرو للبديهة، والمغيرة بن شعبة لكل صغيرة وكبيرة.
هناك بُعد آخر
في هذه الشخصية، هو ما بعد الحلم وكظم الغيظ، حيث كان يوظف الغضب تجاهه بقدرة
فائقة لكسب خصومه، وسوف نذكر مواقف فاصلة في هذه الخاصية الفريدة له، لنجد أنفسنا
أمام قيادة باهرة في الإدارة.
اقرأ أيضاً: بين الإيذاء والإغضاء
بين
الإيذاء والإغضاء
يمكن لشخص أن
يحلم عن المسيء له ويسكت، لكن مهارة معاوية لم يكن في سكوته فقط، بل توظيف الموقف
وكسب شخصيات معادية له إلى صفّه، ونذكر هنا موقفين:
1- كان معاوية
يطوف حول الحرم، وفي الطواف شيخ مسنّ من سادات بني مخزوم، يدعى أبو السائب، فسقط
أثناء الطواف، فنظر فوجد معاوية، فقال له غاضباً: بنو أمية صرعتمونا حول الحرم،
والله يا معاوية، لقد هممت أن أتزوج أمك -هنداً- قبل أبيك أبي سفيان، فكيف ترد على
هذا الرجل وأنت على رأس السلطة(3)؟!
2- كان معاوية
بعد مبايعته بالخلافة يطوف على الأمصار، فلما وصل المدينة لم يخرج إليه أحد،
فجمعهم وقال معاتباً لهم: يا معشر الأنصار، كل الناس استقبلوني إلا أنتم؟
فقال أحد سادات
الأنصار: لم يكن معنا خيل لنستقبلك، فقال: أين إبلكم الفتيّة(4)؟
فقال له سيد
الأنصار: عقرناها في طلب أبيك يوم «بدر» -يذكّره هنا بكفر أبيه وقيادته الحرب ضد
المسلمين- ومعاوية على رأس السلطة، ولديه كل آلات البطش والتنكيل؟
لكن احتواءه
وعبقريته الإدارية كانت مبهرة في ردوده؛ حيث كانت الإجابة عن الموقف الأول أنه قال
لسيد بني مخزوم الغاضب: ليتك فعلت -أي تزوجت هنداً- فأتت بولد نبيل كابنك أبي
السائب.
وكانت إجابته في
الموقف الثاني: بماذا أخبركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مماته؟ فقال له:
أخبرنا أنه سيكون أَثَرَة -أي محاباة وتميّز- فقال: وماذا أمركم حينها؟ قالوا:
أمرنا بالصبر، فقال معاوية: إذن فاصبروا.
اقرأ أيضاً: 5 أمهات صنعن التاريخ
شخصية
مبهرة
شخصية الصحابي
معاوية بعيداً عن القتل والاقتتال والقضايا الجدلية، شخصية إدارية مبهرة، تستحق
دراسة أوسع وأشمل، ليستفيد منها القادة ويعتبر بها الأفراد، خاصة في حسن التدرج في
السياسة ودراسة المراحل، فهو:
1- يمتلك
المهارة في دراسة النتائج قبل اتخاذ القرار.
2- لديه قدرة
فائقة في احتواء الصدمة –إن جاز التعبير- وتحويلها لمكسب سياسي.
3- لا يخلط في
إنزال العقوبة وتقدير المواقف، التي أجملها بقوله: والله لا أضع قولي حيث ينفع
مالي، ولا أضع سوطي حيث ينفع قولي، ولا أضع سيفي حيث ينفع سوطي، فإذا لم أجد إلا
السيف ركبتُه.
_______________________
(1) الحافظ ابن
كثير: البداية والنهاية.
(2) د. عبدالشافي
محمد عبد اللطيف: العالم الإسلامي في العصر الأموي.
(3) الإمام
السهيلي: الروض الأُنُف شرح سيرة ابن هشام.
(4) الإمام الذهبي: سير أعلام النبلاء.