سلسلة الطريق إلى الإبداع

مشروب ساخن على طاولة المبدعين (2).. العَجَلة.. ذلك الفخ الكبير!

 طريق الوصول!

في لقاء له مع نادية صالح في البرنامج الإذاعي "زيارة لمكتبة فلان"، سُئل الروائي العربي الكبير نجيب محفوظ عن أحب أعماله إلى قلبه، قال ببساطة "التي تعبتُ فيها أكثر"، ثم ضرب مثالًا بالثلاثية وملحمة الحرافيش.

إن ارتباط التعب بجودة المُنتج أمر يكون فيزيائيًّا طرديًّا؛ أي إن هناك ارتباطًا وثيقًا بين فعل الإبداع المُجهد المُضني، وحصاده الجميل المُرضي؛ فالمبدع في أثناء عمله يخضع لعملية إنضاج كاملة، تأخذ وقتها من القراءة والتفكير والبحث والتنقيب وإسناد المعلومة وقراءة البيئة التي سيقفز وسطها عبر أجنحة الخيال، أيًّا كان حقل الكتابة، كل ذلك مرهق مُتعب جاد، لكنه لازم من لوازم الإبداع والوصول.

الشغف يضرُّ أحيانًا!

الشغف هو المُحرِّك الأول للروح المبدعة، إن اشتعلَ توهَّجتْ، وإن خفت تثاقلت، وإن انطفأ تجمَّدت، لكن هذا الشغف نفسه قد يصير أحد أعداء المبدع، وكل صاحب طموح، إن تحوَّل الشغف إلى حماسة طفولية منساقة فقط خلف الرغبة في الظهور السريع، والتعجُّل في الخروج للنور والتلويح للجماهير قبل التجهيز والتعزيز، وقد يدفعه للانسحاب الغاضب إن لم تصل النفس إلى ما يُرضيها، ولم تقطف ثمرة النجاح من أولى نواصي الطريق، كما رسم له خياله الأول.

وفي تراثنا تحذيرات كثيرة من الشغف الذي يؤدي إلى رغبة جامحة في التصدُّر والقفز السريع على مصطبة التجربة؛ لأن التصدر المتعجل يعني عدم الاكتمال، ويعني أن شهوة الظهور أكبر من حب الإتقان، وقد قال أبو الطيب النيسابوري الشافعي (ت 407 هـ) كلمته التي صارت مثلًا: "من تصدَّر قبل أوانه؛ فقد تصدى لهوانه".

وذلك النهي ليس لمجرد صغر السن، أو قلة الزاد، ولكن لأن التصدُّر قبل الاستواء التواء يؤثر سلبًا على المبدع، ويحرق في جوفه أهم وقودين؛ وقود الشغف الذي يتبخر بمجرد الوصول – غير المستحق - للنتائج، وإن لم يصل خَمَل الشغف وانطفأ، ووقود الإجادة؛ فالاستعجال دومًا يأتي على حساب الجمال؛ ما يجعل التجربة مُرَّة وثقيلة.

كن المُسيطر

في مشاركة لها بكتاب "لماذا نكتب"، تقول الكاتبة الأمريكية ميغ واليتزر (Meg wolitzer) "أنت لا تستطيع السيطرة على الآخرين، على علاقاتك، أو على أطفالك، ولكن بالكتابة تستطيع أن تحصل على فترات متصلة تكون فيها المسيطر تمامًا". هذه إذن أكبر روافد الشفاء النفسي التي يفتحها الإبداع، والنتيجة الإيجابية الأولى التي يتحصَّل عليها المبدعون؛ فهي تشعرهم بالسيطرة والاكتمال والتشبُّع. لكن يخسر صاحب العجلة تلك الميزة المهمة؛ لأنه يصير تابعًا للتسرع، خاضعًا لشهوة التحقُّق والظهور، متسغرَقًا في إثبات شيء للناس، وهم قد يكونون عنه نائمين.

الرجل الذي كسر قوسه

هناك جانب آخر من جنايات العَجَلة على الإبداع، هي أن المبدع قد يُعجزه تعدد التجارب الفاشلة، وتخنق دهشته الأولى وحماسته التي ابتدأ بها طريقه؛ فبعد خطوات قصيرة في الطريق يظن أن الأمل الذي كان يُخايله في البداية ما هو إلا سراب؛ فيلقي بأدواته على طول يده في الهواء، ثم يستدير عائدًا من حيث أتى.

وقد اختصر السيد مُحارب بن قيس الكُسَعِي تاريخ الاستعجال عندما حاول الصيد بقوسه الجديد مرة واثنتين وثلاثة وأربعة وخمسة، ثم لمَّا وجد أن سهامه لا تصيب، أو هكذا ظن؛ كسر قوسه وألقى بالسهام، ونام عائدًا لخمول الرقاد. لكن عند طلوع النهار اكتشف أن كل سهامه أصابت الغزلان، وأن قوسه – الذي كسره - لم يخذله كما تصور؛ فقال يعاتب نفسه:

نَدمتُ ندامةً لو أنَّ نفسي * تطاوِعُني إذًا لقطعتُ خَمْسي

تبيَّن لي سفاه الرأي مني * لعمر أبيك حين كسرتُ قوسي

خذ وقتك

في أثتاء كتابته للرواية الشهيرة "مدام بوفاري" كان الكاتب الفرنسي الكبير جوستاف فلوبير يجري بحوثًا علمية قبل الكتابة، ولا يكتب إلا صفحة واحدة في اليوم.

من الجيد ألا ينجذب المبدع إلى طرقات السرعة التي تحيطه، أو يتعجَّل في إقناع غيره أنه صاحب إنجاز؛ فيكون ذلك على حساب جودة عمله، أو على حساب روحه وراحته، لكن دائمًا وسط اللهاث عليه أن يتوقف، أن ينتظر، أن يتنفَّس. لن يحدث شيء إذا تأخر على العالم من حوله قليلًا، عليه أن يقتنص ساعات الصفاء التي يدعو إليها الدكتور عبد الوهاب المسيري، لحظاتٍ خارج الزمان، يستعيد فيها المبدع تكاملهُ وإنسانيَّتهُ بعد أن يكون قد فقدَ بعضًا منهما في معتركِ الحياةِ وتفاصيلِها التي لا تنتهي.

إنهم يتربصون بك!

هذا شعور من الضروري أن يلازم الكاتب حين صياغة منتجه (بنسبة ما)؛ فلا يتعجَّل الأيام متصورًا أنه سيخرج رافعًا عمله في شرفته العتيقة متلقِّيًا الاستقبال الحافل والتصفيق الحار، بل يضع في حسبانه احتمالًا يتحول إلى تأكيدات، عندما يُخرجه للناس، سيفنِّدونه، سينتقدونه، سيقولون فيه المطاعن، خاصة خصومه، بل يتضخَّم احتمال آخر بأن يتجاهلوه كُلِّية؛ فمن الضروري أن يصبر ويُجوِّد ويحذف ويضيف، ويستجمع كل طاقته، متجاهلًا الزمن وإلحاح الظهور.

وقد قال الجاحظ قديمًا وصيته الخالدة "ينبغي لمن كتب كتابًا ألا يكتبه إلا على أن الناس كلَّهم له أعداء، وكلهم عالِم بالأمور، وكلهم متفرّغ له، ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غفلًا، ولا يرضى بالرأي الفطير؛ فإن لابتداء الكتاب فتنة وعُجْبًا، فإذا سكنتْ الطبيعة وهدأتْ الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النفس وافرة، أعاد النَّظر فيه، فيتوقّف عند فصوله توقُّف من يكون وزن طمعه في السلامة أنقص من وزن خوفه من العيب".

إنه اسمُك

في كتاب "لماذا نكتب" يقول الكاتب الأمريكي سباستيان جونكر: "رؤية اسمك على المطبوعات للمرة الأولى لا يضاهيه شيء". هذا صحيح، لكن ماذا لو خرج العمل سيئًا بسبب العَجَلة، وضغط الحاجة لالتقاط الصور، بالتأكيد سيتألم صاحب الاسم كثيرًا، بل ربما يود لو أن اسمه لم يُكتب عليه.

يقول البعض: لكن في هذا الكلام تجاهل للدافع الإنساني الطبيعي في إنجاز شيء، والتقدم للأمام. استدراك صحيح، لكن ما حيلتنا إذا كانت الأمور لا تُدار برغباتنا؟ حتى لو  كنا نستحق أعلى المراتب! إن اختزال الحافز الوحيد للكتابة في النشر ولفت أنظار الآخرين لبضع ساعات، قد يُخمد الموهبة مبكرًا، بل يُعلقها في حبل المشنقة.

التأخر الحلو

"كل شيء هادئ في الميدان الغربي" من أعظم ما كتب الروائي الألماني إريك ريمارك، إنها تجربته الشخصية في الحرب العالمية الأولى وضع فيه عُصارة تجربته المريرة، عرضها على أستاذه "توماس مان"، وكذلك رفضتها الصحيفة التي كان يعمل بها، وترددت عدة دور نشر في نشرها.

ثمَّ نُشرت بعد جهد طويل؛ فبيع منها ٥ ملايين نسخة! 

و"إرسكن كالدويل" صاحب "طريق التبغ" وضع على نفسه اشتراطًا صعبًا يمنع دخول العجلة إلى روحه؛ فقرر أن كل قصة تُرفض من ست جهات يُسقطها من حساباته، ويبدأ في شيء جديد.

والروسي الشهير "نيقولاي غوغول" كتب قصيدة طويلة ولم يجد من ينشرها، فقرر طبعها على حسابه؛ فاستدان من أمه المبلغ، لكنه لم يستطع أن يبيع سوى ثلاث نسخ، فأحرق ما تبقى من النسخ وهاجر مبتعدًا، ثم عاد بعد مدة، وقد نضجت روحه أكثر؛ فعاود الكتابة وبدأ بالمجموعة القصصية "قرب قرية ديكانكا"؛ ففتحت أمامه باب الصعود، وتوالت الأعمال.

اقرأ أيضًأ

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة