مطلق القراوي... فارس الدعوة والوسطية الذي ترجل

حين تنظر إلى سيرة الدكتور مطلق راشد القراوي العازمي، لا تقرأ مجرد سيرة رجلٍ عمل في الإدارة أو سلك الدعوة، بل تقرأ تاريخًا من التوازن بين العقل والقلب، بين الفكر والميدان، بين الخطاب والإصلاح، في زمن كانت فيه الحاجة ماسة لأمثاله. وُلد في قلب الكويت ونبضها، وعاشها بإيمان وفكر، ورحل عنها وقد خلّف فيها وفي العالم الإسلامي أثرًا لا يُمحى.
المولد والنشأة
وُلد في حي الوسط بالكويت عام 1953، ونشأ في بيئة كويتية محافظة شكَّلت وعيه وأمدَّته بالقيم الأصيلة. انتقل إلى منطقة الدسمة عام 1957، حيث تشرب من والده وأجداده حب الدين والوسطية، واحترام الكبير، والإخلاص في العبادة والعمل. تميَّز منذ صغره بالالتزام، وبرزت عليه سمات القيادة المبكرة والحكمة، فكان المسجد مدرسته الأولى، والصحبة الصالحة رفاقه الذين شاركوه مسيرة التشكُّل الروحي والخُلقي.
التعليم: من إدارة الأعمال إلى الإدارة الإسلامية
بدأ
تعليمه في مدارس الرشيد وفلسطين والجاحظ، ثم أكمل دراسته الجامعية في إدارة
الأعمال بجامعة بيروت العربية.
لكنه لم يكتفِ بالمجال الإداري، فشدَّه التعلق بالدعوة، فتوجه إلى الدراسات الإسلامية، ونال الماجستير، ثم الدكتوراه من جامعة كراتشي عام 2008 برسالة نوعية عن "الإدارة الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة"، ليجسِّد بذلك مشروعًا يجمع بين الفكر الإداري والرؤية الشرعية، ويترجمها واقعًا مؤسسيًا.
مسيرة مهنية: العمل الإسلامي من الكويت إلى العالم
بدأ في وزارة الأشغال، ثم انتقل إلى وزارة الأوقاف، حيث خدم في قطاعات متعددة: المساجد، والعلاقات الخارجية، والدراسات الإسلامية، والثقافة الإسلامية. قاد مؤتمرات عن الاعتدال، ونظَّم ملتقيات تربط بين السلوك المجتمعي والدين. وكان له دور محوري بعد الغزو في جعل وزارة الأوقاف منبرًا للأمن الفكري، وأسهم في تأسيس "مركز الوسطية العالمي"، ونشر الفكر الإسلامي المعتدل عالميًا.
روح المتطوع.. وعقل المؤسس
بعد تقاعده في 2013، انطلق أكثر حضورًا في المشهد الخيري والدعوي. ساهم في جامعات ومؤسسات إسلامية في آسيا وأوروبا وأفريقيا، وأشرف على مراكز دعوية كبرى مثل مسجد الكويت الأزرق في أمستردام ومركز شيفلد في بريطانيا. دعمه لم يكن ماديًا فحسب، بل فكريًا وتوجيهيًا، حيث واجه الغلو بفكر وسط، وساهم في تأسيس عشرات المراكز في روسيا، ماليزيا، البوسنة، بريطانيا، وغيرها.
حضور أدبي وفكري
كان صاحب قلمٍ فاعل، له عمود في صحيفة الأنباء الكويتية، ومقالات في مجلات مثل "العالمية" و"واجهة الأوقاف". ألَّف سلسلة «درر الإسلام في نشر السلام»، التي توثق تجاربه الميدانية، وتجمع بين التوثيق والوعظ. شارك في مؤتمرات فكرية دولية، وعمل مستشارًا غير متفرغ، وكان نائبًا لرئيس مركز الحوار والوسطية في البوسنة، ومساهمًا في تطوير التطبيقات الإسلامية عبر رابطة العالم الإسلامي.
صفاته: التواضع، الرؤية، والريادة
تميَّز القراوي بتواضعه وبساطته، رغم ما ناله من مناصب وشهادات، وكان يؤمن أن العمل الخيري يتجاوز الإغاثة ليشمل الفكر والتعليم وبناء الإنسان. كان محاورًا حكيمًا، ومربيًا رؤيويًا، ومبادرًا دائمًا. حرص على الاستماع للناس، وتشجيع الناشئة، وتكريس وقته في التأليف، والنقاش، والإصلاح، وكان ديوانه الأسبوعي ملتقى للعلماء والدعاة والمفكرين من شتى أنحاء العالم.
الوفاة.. والخلود في الذاكرة
في الأول من أغسطس 2025، ودَّعت الكويت أحد رجالها الأفذاذ. رحل الدكتور مطلق راشد القراوي، تاركًا وراءه مشروعًا متكاملًا، ومؤسسات، وطلبة علم، وشهادات ثناء من الداخل والخارج. لم يكن داعية تقليديًا، بل رجل رؤية وإنجاز، كان يرى في الكويت مركز إشعاع للعالم، وكان يؤمن بأن الاعتدال ليس خيارًا، بل واجب ورسالة.
ولئن كان رحيل القراوي غياب جسد، فلقد كان كذلك حضور مدرسة وامتداد فكرة. هو رجلٌ اختصر مسارات شتى في شخصية واحدة: التربوي، الإداري، المفكر، الخيّر، الداعية، الكويتي الإنسان. ويكفينا اليوم أن نقرأ سيرته فننهل من معينها، ونمضي في دربه، لنواصل ما بدأه من بناء، وسلام، وفكر وسطي خالد.
رحمه
الله رحمةً واسعة، وجعل ما قدمه في ميزان حسناته.