مناظرات القرآن الكريم

منير
القاضي
المناظرة
والمحاورة ضربان من ضروب الأدب، يعتمد على كلّ منهما العلماءُ والأدباء في إبداء
ما يَرْمُون إليه من المقاصد والأغراض، بأسهل الطرق وأوسعها؛ فالمناظرة تحقّق
المطلوب بالدليل البرهاني أو الإقناعي الخطابي، والمحاورة تكشف وتُقَرِّب الوصول
إلى مطلب يُراد جِلاؤه.
والمناظرة: هي
توجُّه المتخاصِمَيْن في النسبة بين الشيئين إظهارًا للصواب، أيْ أنّ
المتخاصِمَيْن اللذَيْن مطلب أحدهما يغاير مطلب الآخر، إذا توجّه كلٌّ منهما إلى
إثبات مطلبه، من طريق النقل الصحيح عمّن لا يردّ عليه، أو بإقامة الدليل المؤلَّف
من مقدّمتين: صُغرى وكبرى، على شكل من الأشكال المنطقية، وكان غرضهما من هذا
التوجّه إظهار الصواب؛ فهو المناظرة. مأخوذة من النَّظِير، بمعنى أن يَعُدّ أحدهما
نفسه نظيرًا للآخر في مقام المناقشة والتعليل والإثبات المتّصل بالموضوع. أو هي
مأخوذة من النَّظَر، أي الإبصار من حيث إنّ كُلًّا من المتخاصمَيْن ينظر إلى الآخر
عند المباحثة. أو هي مأخوذة من النَّظِرة، من حيث إنّ كلًّا منهما ينتظر الآخر
ريثما ينتهي من كلامه فيتوجّه إليه بالردّ أو التسليم. أو هي مأخوذة من التناظُر
أي التقابُل، بمعنى أنّ أحدهما يقابل الآخر عند المناقشة.
ومهما كان
الاشتقاق فالغرض هو إظهار الصواب، أيْ: صواب أحد مطلبي المتخاصِمَيْن، فكلّ منهما
يسعى لإثبات دعواه باعتبار أنها هي الصواب. فإذا ادّعى زيد أن القول: «إنما
الأعمال بالنيات» حديث صحيح، وأنكر خالد هذه النسبة، أي: كون هذا القول حديثًا
صحيحًا، وأصرّ كلّ منهما على رأيه، فتوجّه زيد لإثبات دعواه برواية هذا القول عن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسند الصحيح، وتوجّه خالد إلى دفعِ ذلك؛ كان هذا
الحال بينهما مناظرة. وكذلك إذا ادّعى زيد أنّ نشر العلوم في الأمة واجب، فأنكر
خالد ذلك زاعمًا أنه مستحسَن وليس بواجب، فأصرّ زيد -المدَّعِي- على دعواه
مستدلًّا بأنّ نشر العلوم في الأمة واجب، فالدليل هنا مؤلَّف من قضيتين: صغرى،
وهي: (نشر العلوم في الأمة إعداد لقوّة فيها). وكبرى، وهي: (وكلّ إعداد لقوّة
فيها، واجب)، وكلٌّ من قضيتي الدليل -أي الصغرى والكبرى- مسلَّم بها بلا شك.
والدليل هنا
مرتَّب على الشكل الأول من الأشكال الأربعة للدليل في علم المنطق، وبموجبه تظهر
النتيجة بحذف المكرّر في القضيتين، وهو (إعداد القوة فيها)، فإذا حُذِف هذا
المكرّر في هذا الدليل تكون النتيجة: (نشر العلوم في الأمة واجب)، وللخصم -السائل-
أن يعارض دليلَ المدّعِي بدليل مقابل يُنتج خلاف دليله، أو يَنقض الدليل بدليل
آخر، أو يمنع دليل خصمه، أي: أن يطلب من المدّعِي دليلًا على صحة إحدى مقدمتي
دليله: صغراه وكبراه. وهكذا تستمر المناقشة بين الطرفين المتناظرين -المدّعِي
والسائل- على الوجه المذكور، مع التحلِّي بالأدب والاحترام المقابل، إلى أن يعجز
أحدهما عن إثبات مراده فيخضع بالتسليم لدعوى خصمه، لظهور الصواب في جانبه.
هذا إنْ كان
المطلوب بين المتخاصمَيْن إظهار الصواب، وهو الأصل والركن المهم في المناظرات بين
طلاب الوصول إلى الحقائق، أمّا إذا كان الغرض من المنازعة بين الطرفين مجرّد إلزام
الخصم وإفحامه غير ناظرين إلى كونها تؤدّي إلى ظهور الصواب أو عدمه؛ فتسمّى
(مجادلة) لا (مناظرة)، ومثل هذه المجادلة تقع غالبًا بين رؤساء المذاهب الذين
تقرّر عند كلّ منهم مذهبه، معتقدًا صوابه، بحيث لا يطمع فيه أن يتحوّل عنه، وتجري
أيضًا بين رؤساء الأحزاب وبين المرشحين في الانتخابات، استكثارًا لأتباع المذهب أو
الناخبين، أو أعضاء الحزب، بغية تكبير العدد المؤدّي إلى قوّة في المذهب أو الحزب،
أو إلى رجحان بعض المرشحين عل بعض في الانتخابات، ويكفي في المجادلة أن ينقطع أحد
الخصمين عن الجواب في النهاية، ويقع في ربقة الإلزام، سواء أكان دليل خصمه مقنعًا
في الحقيقة والواقع، أم كان غرضًا للطعن والتزييف في نفس الأمر والحقيقة.
فالغرض من
المجادلة ومحطّ النظر فيها هو الوصول إلى إلزام الخصم وإفحامه لا غير، ويشترط في
المجادلة ما يشترط في المناظرة من التمسك بالآداب المقرّرة المعروفة الواجب العمل
بها عند المناقشة بين الطرفين، إلى أن يتحقق الغرض وتنجلي النتيجة؛ (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت: 46).
اقرأ أيضاً: أسلوب القرآن الكريم
وإذا لم يُقصد
من المنازعة بين الطرفين إظهار الصواب ولا إلزام الخصم، بل شيء آخر كإظهار
المنازِع نفسَه عالمًا، وكَستْرِ جهله في أعين السامعين، فإنها تسمّى «مكابرة»،
فالمكابِر لا يطلب من منازعته ومخاصمته إظهار الصواب ولا إلزام خصمه، فقد يظهر
الصواب جليًّا فلا يسلِّم به، بل يبقى راكبًا رأسه يتشبّث بالحشيش، ويستقوي
بالحطام، ويستدلّ بفارغ القول ولَهْو الحديث، وقد تلزمه الحُجّة فلا ينقطع عن
الكلام، ولا يمسك عن القول، ليستر جهله ويتمسّك بأذيال التمويه والمغالطة، ليغطِّي
نقصه ويُخفي عيبه. وقد لا يُرْجَى من المخاصمة في القول ظهور صواب أو تحقيق إلزام
أو تثبيت مرام، بل مجرّد مراجعات في الكلام ومباراة في الاستدلالات الفارغة؛
للمباهاة أو التضليل، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ
عَن سَبِيلِ الله}، ومثل هذا يدخل في باب الهذيان والهذر.
فالمخاصمات
الكلامية الجارية في الآراء، والمذاهب، والمطالب الأخرى لا تخلو من أن تكون مناظرة
أو مجادلة أو مكابرة. وكلّها من ضروب الأدب والبحث القَيّم، وما عداها من القول في
المخاصمات الكلامية هُراءٌ ولهوٌ، ولا يتقبله الأدب الصحيح، وتستثقله الأسماع،
وأعلاها المناظرة فالمجادلة، والواهن منها المكابرة.
ومن المناظرات
نوع يقوم الدليل في إثبات الدعوى فيها على إجراء أعمال تشهد على صحّتها أو تؤدي
إلى تحقيقها فعلًا، ولنا أن نسمي مثل هذه المناظرة بالمناظرة العملية، وما
المعجزات التي يأتي بها الرُّسل والأنبياء إلا من هذا القَبِيل، وكذلك التجارب
والاختبارات التي يقوم بها العلماء لإثبات الدعاوى العلمية من هندسية ونحوها.
ومن المناظرات
نوع يقوم على المبادرة بالدعوى مقرونة بدليلها الذي يستحيل أو يتعسّر على الخصم أن
يدافعه؛ لأنه عين الواقع وعين الحقيقة التي يسلِّم بها الخصم، فهو محجوج من أوّل
الأمر، وفاشل في زعمه، ومفحَم في مناظرته، أو بالدعوى التي هي من الضروريات
الأوّلية؛ والضروري الأوّلي ما يستلزم نفس تصوره حصول التصديق به، على حَدّ قولنا:
الواحد نصف الاثنين. ولنا أن نسمي مثل هذه المناظرة بالمناظرة المنتصرة الدعوى،
مثل قوله تعالى: (يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ
وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (آل عمران: 65)،
وقول الأعرابي: «الأثر يدلّ على المسير؛ سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا تدلّ
على السميع البصير؟!».
وفي القرآن
الكريم مناظرات من الأنواع الثلاثة: القولية، والعملية، وذات الدعوى المنتصرة.
اقرأ أيضاً: المثل في القرآن الكريم
والأصلُ في
المناظراتِ القوليةُ المستندةُ إلى الأدلة العقلية، فتجري المناقشات بين العقول،
وتنتهي عندما تقنع العقول بصحة الدعوى أو بطلانها، ولا يركن إلى الفعلية إلا إذا
لم يكن للعقل وحده مجال لإثبات الدعوى، بل لا بد أن تقترن حركته بعمل يقوم به صاحب
الدعوى، كما هو الأمر في المعجزات وفي الدعاوى الهندسية، والتجريبية الاختبارية،
وإلا إذا لم يملك الخصم عقلًا قادرًا على مُدَارَأَة أدلة الدعوى ولا أهلية له في
ذلك، فيلجأ صاحب الدعوى إلى إقناعه بإجراء أعمال تقنعه أو تلزمه فينتصر المدعِي
ويخيب الخصم السائل.
أمّا المحاورة:
فهي المراجعة في الكلام، أي المجاوبة؛ ومنه التحاور، أي التجاوب، مِن حار يحور،
بمعنى: رجع يرجع، والاسم: الحوير والحوار.
فالمحاورة
مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة. وهي ضرب من ضروب الأدب الرفيع العليِّ، وأسلوب
من أساليبه: فيها استنطاق، وفيها استفهام، وفيها بيان، وفيها شرح وإيضاح، وفيها
شكوى البثّ والحزن، وفيها بثّ ما في الضمير وكشف السرائر، وفيها وفيها، وفي كتب
الأدب فصول طويلة في المحاورات البليغة. وقد أصبح للمحاورة في الأدب الغنائي في
العصر الحاضر شأنٌ ذو بال.
وللمحاورة في
أدب الدِّين آثار تَستجلب العِظَة، وتُوزِع النفوس الجامحة، وتنبّه القلوب
الغافلة، وتستبصر البصائر؛ فما ألطف محاورة أيوب -عليه السلام- مع أصدقائه وهو
غارق في بلواه، وما أدقّ ما فيها من أدب رفيع وفلسفة قويمة، وتغلغل في أعماق
الأرواح والنفوس، وقد حاق به الصبر، واستأسرته الأمراض، وأناخت عليه الكوارث، وما
أبرع مناجاته لربّه وهو حائر في توجيه الخطاب، ولاذع العتاب، حتى وقف بيانه،
وانعقد لسانه، إِذْ نادى رَبَّه أني مسَّني الضر وأنت أرحم الراحمين، معترفًا
بالضراعة، مستجيرًا بربه من الضراوة، مقرًّا أنه قد انحرف عن قاعدة أهل الصبر
واليقين طالبًا الرحمة من ربّ العالمين، محاورة بليغة بين نبي مُبتلَى وزمرة من
أهل الحقيقة الصادقين. سطرتها كتب الدِّين القديمة، وأشار إليها القرآن العظيم
بإجمال بليغ وتعبير دقيق.
________________________
المصدر: مجلة
«المجمع العلمي العراقي»، مارس 1961م.