من الأخلاق الغائبة.. الصدق في البيع والشراء

يعد خلق الصدق
من أهم وأعظم الأخلاقيات التي حض التشريع الإسلامي بشقيه القرآن والسُّنة عليه،
خاصة فيما يتعلق بمسائل البيع والشراء والمعاملات بين الناس عامة والمسلمين خاصة،
وبما يتعلق بحقوقهم المالية والأدبية علاوة على مصالحهم الخاصة والعامة، والصدق في
أمور البيع والشراء ليس فقط من باب الأمانة، وإنما هو مظهر مهم من مظاهر التقوى
والإيمان والعدالة.
والصدق من مجموعة
القيم الإسلامية داخل كتاب الله عز وجل، والصادقون من أصحاب المكانة العالية عند
رب العالمين، يقول تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً) (النساء: 69)؛ فهم بالجنة في صحبة الأنبياء.
وقد جعل الله عز
وجل الصدق صفة من صفاته سبحانه، فقال تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران: 95)، وقال تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ
قِيلًا) (النساء: 122)، وقال سبحانه: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) (النساء:
87).
وجعله الله عز
وجل من صفات الأنبياء، فقال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا
نَبِيًّا) (مريم: 41)، وقال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ
وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) (مريم: 54)، وقال سبحانه: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ
إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً {56} وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً) (مريم).
ترغيب
الله عز وجل بالصدق
وقد أولى
الإسلام أهمية خاصة بخلق الصدق وأفرد له الكثير من الآيات في كتاب الله العزيز،
فأمر عباده بملازمة المتقين وتحري الصدق في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119).
وقد قسم القرآن
الناس لقسمين لا ثالث لهما، فإما أن يكون صادقاً، وإما أن يكون منافقاً، يقول تعالى:
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ
الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ) (الأحزاب 24).
وقد عظم الله عز
وجل أجر الصادقين فقال سبحانه: (وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ
وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء: 69).
ومن أهم الأخلاق
التي عرف بها النبي صلى الله عليه وسلم منذ طفولته وتميز بها، حيث كان لقبه الصادق
الأمين، وقد كان من أكبر مسوغات قبوله كنبي مرسل، حيث من صدق مع الناس كان من باب
أولى أن يصدق مع الله رب العالمين، ومن ترفع عن الكذب في الصغائر، فمن باب أولى كذلك
أن يترفع عنه فيما يتعلق بأمور السماء والآخرة، يقول النضر بن الحارث: يا معشر
قريش، قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم
أمانةً(1).
وعن عبدالله بن
مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى
الجنة، وإن الرجل يصدق حتى يكتب عن الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن
الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» (متفق عليه)،
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا
بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما» (رواه البخاري)، وعن أبي
سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين
والصديقين والشهداء» (رواه الترمذي).
وجاء في الحديث
عن رفاعة أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون
فقال: «يا معشر التجار»، فاستجابوا للنبي صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم
وأبصارهم إليه فقال: «إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبر
وصدق» (رواه الترمذي)، وعن معاذ بن جبل: «إن أطيب الكسب كسب التجار، الذين إذا
صدقوا لم يكذبوا، وإن ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم
يندموا، وإذا باعوا لم يخدعوا، وإذا كان عليهم لم يماطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا»(2).
آثار
الصدق في المعاملات التجارية بين الناس
الصدق والأمانة
ليست أخلاقاً اختيارية يقوم بها تاجر دون آخر، أو مسلم دون أخيه المسلم، هي أخلاق
مفروض على المسلمين التحلي بها والعمل وفقها في حياته اليومية ومعاملاته مع الناس،
وللتعامل بالصدق دوماً ثمرات تعود على الجميع بالبركة والسلام النفسي ونيل رضوان
الله عز وجل ومن ثم جنته ومرافقة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الثمرات:
1- البركة في
الرزق.
2- الصدق في
التعاملات التجارية سبب في دخول الجنة.
3- الصدق ينافي
الكذب والغش وخداع المسلمين والتدليس عليهم، وبهذا يطمئن الناس تجاه أحدهم الآخر
ويعم السلام والمودة والحب بين أفراد المجتمع الواحد، فعن أبي هريرة أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا» (رواه
مسلم).
4- ارتفاع قدر
المسلم وكرامته وشرفه، فالكاذب المخادع منبوذ بين الناس، موصوم بالكذب وخيانة
المسلمين وهي صفات لا تليق بمسلم.
5- يطيب عيش
المسلم بالصدق ويصفو باله، وراحة ضميره العقيدي تجاه إخوانه المسلمين، وطبيعة
الإنسان أنه يطمئن إذا كان في طاعة وقرب من رب العالمين.
6- انتشار مبدأ
الثقة في المجتمع المسلم، هذا غير الشجاعة والثقة الفردية بالنفس والقدرة على
الجهر بكلمة الحق في أي وقت، فالكاذب تنكسر روحه ولا يستطيع المواجهة حيث يكون
مذعوراً طول الوقت.
الهدي
النبوي في البيع والشراء
كان النبي صلى
الله عليه وسلم يعمل بالتجارة قبل البعثة المشرفة مع عمه أبي طالب، ثم في مال أم
المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وعرف وقتها بالصدق والأمانة وذلك في الوقت الذي لم
يكن هناك دين ولا تشريع، إلا من أخلاق عربية يتحلى بها البعض ولا يتمسك بها
الأكثرية، فكان سمحاً طيباً صادقاً، عن جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: «رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى» (رواه
البخاري).
_________________
(1) سيرة ابن
هشام (1/ 299).
(2) كتاب فقه
التاجر المسلم، حسام الدين عفانة، ص 223.