من عبادة إلى عبادة.. (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ)
إن الله تعالى الذي خلق الإنسان ويعرف طبيعته، ويعرف ما يصلحه ويصلح شأنه،
هو الذي أخبرنا أنه ما خلق الإنسان إلا للعبادة، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، ولذا فصلاح حال الإنسان
دائمًا أن يكون كل حاله عبادة لله تعالى، حتى في حال نومه لا بد أن يكون في عبادة
لله، ويتحقق له ذلك بكونه دائمًا على نية صالحة، فالنية تحول العادة إلى عبادة،
وتجعل من اللهو المباح عملًا صالحًا يرضي الله تعالى، ومن هنا نفهم قول الله
تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام)، فكل حياة الإنسان من يقظة ونوم، وجد ولعب، وقصد وسهو،
كلها لله تعالى.
(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) (الشرح: 7)؛ قال الإمام الرازي عن هذه الآية: وَجْهُ تَعَلُّقِ
هَذَا بِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ
السَّالِفَةَ، وَوَعَدَهُمْ بِالنِّعَمِ الْآتِيَةِ، لَا جَرَمَ بَعَثَهُ عَلَى
الشُّكْرِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، فَقَالَ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ
أَيْ فَاتْعَبْ يُقَالُ: نَصَبَ يَنْصِبُ، قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ
وَمُقَاتِلٌ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك فِي الدُّعَاءِ
وَارْغَبْ إِلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ يُعْطِكَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا
فَرَغْتَ مِنَ التَّشَهُّدِ فَادْعُ لِدُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكَ فَانْصَبْ
وَصَلِّ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْفَرَائِضِ فَانْصَبْ فِي
قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْغَزْوِ فَاجْتَهِدْ
فِي الْعِبَادَةِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: إِذَا كُنْتَ صَحِيحًا
فَانْصَبْ، يَعْنِي اجْعَلْ فَرَاغَكَ نَصَبًا فِي الْعِبَادَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ
مَا رُوِيَ أَنْ شُرَيْحًا مَرَّ بِرَجُلَيْنِ يَتَصَارَعَانِ، فَقَالَ:
الْفَارِغُ مَا أُمِرَ بِهَذَا إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَعْنَى أَنْ يُوَاصِلَ بَيْنَ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ
وَبَعْضٍ، وَأَنْ لَا يُخَلِّيَ وَقْتًا مِنْ أَوْقَاتِهِ مِنْهَا، فَإِذَا فَرَغَ
مِنْ عبادة أتبعها بأخرى(1).
أي أن الله تعالى كما قال الإمام الرازي، يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن
يواصل بين العبادات بعضها ببعض، وأن يجعل وقته كله عبادة لله تعالى، فكلما انتهى
من عبادة شرع في عبادة مثلها.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان أكثر الخلق عبادة لله تعالى،
إلا أنه كان ينام ويستيقظ، ويصوم ويفطر، وكان يتزوج النساء، ويلعب مع الغلمان،
ويمازح أصحابه، إذن هذه كلها كانت عبادة لله تعالى، إذ كان قصد النبي صلى الله
عليه وسلم منها وجه الله عز وجل، وذلك بالنية الصالحة.
من عبادة الصوم إلى ماذا؟
ها قد فرغ الناس من عبادة الصوم الجميلة، أفتراهم يركنون لما فعلوه في
رمضان، ويركنون لذلك انتظارًا لرمضان القادم -وما أدراهم أنهم سيدركونه- ويتكاسلون
عن الطاعات، أم أن رمضان غرس فيهم غرسًا جميلًا، فحبب إليهم الطاعات، وقد كانوا في
رمضان يتنقلون بين العبادات بسهولة ويسر، فوقتهم بين القرآن والذكر، بين صلاة
القيام وصلاة الضحى، بين الكلمة الطيبة والصدقة النافعة، فإن كان رمضان قد انصرم،
فنحن ربانيون لا رمضانيون، بمعنى أننا لو فرغنا من رمضان فإننا ننتقل لطاعة وعبادة
أخرى لرب رمضان، فصيام السنن يلازمنا.
فَعَن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا بَاعَدَ اللَّهُ،
بِذَلِكَ الْيَوْمِ، وَجْهَهُ عن النار سبعين خريفا»(2).
فصيام 6 من شوال تعدل 420 خريفًا، والإثنين والخميس في كل شهر تعدل 560
خريفاً، فأي فضل أعظم من هذا الفضل من الله تعالى، ثم كم من العبادات العظيمة
الأخرى فروضًا ونوافل ينتقل إليها العبد بعد رمضان، فيزداد بها ميزانه، وتجلب إليه
محبة الله تعالى!
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ
اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا
تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ،
وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ،
فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي
يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي
بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ،
وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ
الْمُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»(3).
ما أجمل تلك الكلمات وما أحلاها وما أجمل وقعها على النفس! فهي تدفع بحب
إلى الانتقال من عبادة لأخرى دون ضجر، بل بحب وامتنان، وتجعل العبد دومًا في عبادة
الله تعالى، وما أجمل ولا أحلى أن يعيش العبد دومًا مع عبادة الدعوة إلى الله
تعالى، وعبادة حسن الخلق، وعبادة الذكر، فهذه عبادات يجب أن تلازم العبد في حله
وترحاله!
كيف أجعل نفسي دومًا في عبادة؟
كثير منا يتمنى أن يكون دومًا في عبادة لمولاه، لكنه الانشغال، والنسيان
وغير ذلك مما يبعده عن العبادة، والحقيقة لو أحسن لجعل انشغاله بأي عمل عبادة لله،
ولجعل من يقظته ونومه عبادة لله تعالى، فقط عليه أن يكثر من تجديد النية بأن يجعل
حياته كلها لله، فما يتحرك لعمل إلا وينوي به وجه الله تعالى، فإن أدرك العمل حاز
الأجر، وإن حصر عنه أخذ أجر النية.
يقول الشيخ ابن باز معلقًا على قول بعض السلف: نية المؤمن أبلغ من عمله،
قال: من كلام بعض السلف، مأخوذة من بعض الأحاديث، مستنبطة من حديث الأعمال بالنيات،
وأن العبد له ما نوى، وأنه إذا نوى العمل الطيب ثم حبسه عذر صار له أجر العاملين،
كما في الحديث الصحيح: «إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل وهو صحيح
مقيم»، وفي الحديث: «إن في المدينة أقوامًا ما سلكتم طريقًا ولا قطعتم شِعْبًا إلا
وهو معكم حَبَسَهُمُ العُذْرُ يعني مع النية الصالحة»(4).
فإن نويت الحج كل عام وحصرت عنه نلت أجره، وإن نويت الجهاد وبذلت الوسع نلت
أجر المجاهدين وإن لم تقتل معهم، وإن نويت الصدقة ولو كنت فقيرًا نلت درجة
المتصدقين.
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،
فَلَمَّا أَبْصَرَ يَعْنِي أُحُدًا قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّهُ يُحَوَّلَ لِي
ذَهَبًا، يَمْكُثُ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا دِينَارًا
أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمُ الْأَقَلُّونَ،
إِلَّا مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ أَبُو شِهَابٍ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَقَالَ:
مَكَانَكَ، وَتَقَدَّمَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَسَمِعْتُ صَوْتًا، فَأَرَدْتُ أَنْ
آتِيَهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ: مَكَانَكَ حَتَّى آتِيَكَ، فَلَمَّا جَاءَ
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، الَّذِي سَمِعْتُ، أَوْ قَالَ: الصَّوْتُ الَّذِي
سَمِعْتُ؟ قَالَ: وَهَلْ سَمِعْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ
عليه السلام، فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا
دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: نَعَمْ»(5).
_____________________
(1) تفسير الرازي (32/ 209).
(2) رواه مسلم (1153).
(3) رواه البخاري (6502).
(4) موقع الإمام بن باز: https://binbaz.org.sa/fatwas/kind/3.
(5) رواه البخاري (2388).