مهارات مناصرة المظلوم

يحتل مفهوم نصرة المظلوم مكانة مركزية في التصور الإسلامي للعدالة الاجتماعية، إذ جعل الإسلام مناصرة المظلوم جزءاً من الإيمان وأصلاً من أصول الأخلاق القرآنية، ومع قدوم رمضان يتضاعف الاهتمام بهذا الواجب، ليس فقط باعتباره فعلاً أخلاقياً، بل باعتباره تناغماً مع فلسفة الصيام ومقصده الأعلى، وهو التقوى؛ ما يدفع المسلمين إلى الإحساس بحاجات الضعفاء وآلام المقهورين.

في هذا السياق، يصبح رمضان موسماً لإحياء قيمة نصرة المظلومين بكل وسيلة مستطاعة، لا سيما في ظل الأزمات الإنسانية المتلاحقة، وفي مقدمتها مأساة قطاع غزة، فالنصوص الشرعية تؤكد أن نصرة المظلوم عبادة قائمة بذاتها، وهو عين ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» (صحيح البخاري).

عندما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نصرة الظالم، أوضح ذلك بقوله: «تأخذ فوق يديه»؛ أي تدفعه عن ظلمه؛ ما يعني أن التصدي للظلم ورفع الحيف عن المظلوم عبادة تتجاوز مفهوم الموسمية، ومع ذلك فإن رمضان يظل فرصة إيمانية لإعادة الاعتبار لها ولعلاقتها بقيمة ترسيخ العدالة الاجتماعية في أمتنا.

عدالة اجتماعية

إن التدبر العميق للآيات القرآنية يقدم صورة مكتملة للعدالة الاجتماعية باعتبارها جزءاً لا يتجزأ عن كل الإيمان، فهي دائماً مقرونة في سياقات كتاب الله بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالعدل والإحسان؛ (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ) (النحل: 90)، ووضعت المستضعفين في قلب المشروع الأخلاقي للأمة.

وفي رمضان تحديداً، تُستدعى هذه القيم بقوة، إذ يرتبط الصيام بتجربة ما يمكن أن نسميه الحرمان الطوعي؛ ما يجعل المؤمن أكثر إدراكًا لمعاناة المقهورين والمظلومين، وهو ما يفسر الزيادة الكبيرة للإنفاق الخيري في رمضان بمجتمعاتنا المسلمة مقارنة بباقي شهور السنة.

غير أن هذا الواقع يُعزز الحاجة إلى إعادة النظر إلى رمضان كبيئة خصبة لتفعيل نصرة المظلومين عبر أدوات عملية، وليس مجرد عاطفة موسمية، وهو ما يجد سنداً له من قراءة تاريخنا الإسلامي، الذي يتكرر فيه مشهد ارتباط رمضان بنصرة المظلومين.


اقرأ أيضاً: النصرة في ميزان الإسلام طريق لإقامة العدل


على سبيل المثال، في رمضان 584هـ، حرص صلاح الدين الأيوبي على تخصيص أوقاف جديدة لإعانة أسر الشهداء والمحررين من الأسر الصليبي، مستلهماً روح الشهر الكريم في تعزيز التضامن المجتمعي، كما تشهد مصادر التاريخ العثماني أن السلاطين كانوا يصدرون قرارات العفو عن المساجين المظلومين في رمضان، وهو تقليد استند إلى إدراك أن العدالة الاجتماعية شرط لصحة التدين العام.

وفي ظل العدوان المستمر على أهلنا في فلسطين المحتلة، تصبح نصرة المظلومين إحدى أهم تجليات القيم الرمضانية مع ضرورة أن تعبر عن ممارسات مؤسسية ممنهجة وليس مجرد أعمال بر فردية، إذ إن الباطل المنظم لا يمكن أن يُدحض إلا بحق منظم.

عبادة رمضانية

إذن، كيف نحول نصرة المظلوم إلى عبادة رمضانية مستدامة؟ التحدي الأكبر في إجابة هذا السؤال يتمثل في تجاوز الفعل الموسمي نحو بناء مشروع متكامل يجعل نصرة المظلومين جزءاً من ثقافة رمضان أولاً وبقية العام ثانياً، فالفجوة لا تزال قائمة بين الحماس العاطفي لنصرة المظلومين، ووجود خطط إستراتيجية لاستدامة هذا الحماس بعد الشهر الكريم.

نستلهم هذا المعنى من قصة مظلومية سيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه الذي كان عبداً يتعرض للتعذيب على يد سيده أمية بن خلف؛ بسبب إسلامه، لكن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وقف إلى جانبه، حيث اشتراه وأعتقه، ورسخ أسلوباً عملياً اتبعه أثرياء المسلمين لاحقاً في استنقاذ إخوانهم من بطش الكفار.

فنصرة المظلوم في رمضان ليست مجرد خيار تطوعي، بل عبادة ذات بُعد شرعي متجذر في التصور الإسلامي للعدل والإحسان، فمن قوله تعالى: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ) (النساء: 75)، نتعلم أن نصرة المستضعفين جزء من الجهاد في سبيل الله.

ومع تصاعد الظلم في عالمنا الإسلامي خصوصاً في فلسطين، يصبح رمضان موسماً لإعادة تربية الأمة على قيم النصرة الفاعلة، لا مجرد الاقتصار على النصرة الرمزية.

مهارات المناصرة

وفي هذا الإطار، يمكن للمؤسسات الإسلامية إطلاق منصات تدريبية في رمضان لتعليم الشباب مهارات المناصرة الحقوقية من منظور إسلامي على سبيل المثال، وربط ذلك ببرامج السحور وحلقات الوعظ الرمضاني، بحيث تصبح نصرة المظلوم ثقافة شعبية مدمجة في الوعي الجمعي، وليست مجرد استجابة ظرفية لأحداث سياسية طارئة.

وفي تقديرنا أن استخدام التكنولوجيا يمثل عاملاً شديد الأهمية في تعزيز هذا الهدف، فمنصات التواصل الاجتماعي باتت أداة لا غنى عنها لنشر الوعي بقضايا المظلومين وتنسيق الجهود الداعمة لها، وهو ما يمكن تحقيقه عبر إنشاء تطبيقات إلكترونية تتيح للداعمين متابعة كيفية توجيه سبل الدعم إلى المستضعفين، وهو ما لم يعد محكوماً بموافقة حكومية في كثير من الأحيان.


اقرأ أيضاً: الظلم ظلمات[1]


إن نصرة المظلوم ليست مجرد فعل سياسي أو إغاثي، بل جزء من التصور الإيماني للمسلم والمسلمة، والصيام الذي يعلمنا الصبر يهيئ النفس لقبول فكرة التضحية من أجل العدالة، وكما أن المسلم يضحي بلذاته المباحة في النهار طلباً لرضوان الله تعالى، فإنه يُطلب منه أن يضحي براحة البال واللامبالاة، ليقف في صف المقهورين، وهذا التداخل بين الروحي والاجتماعي جوهر فهمنا الإسلامي لفريضة الصيام.

وإذا كان رمضان موسمًا للعبادة، فإن نصرة المظلوم اليوم هي العبادة الأولى التي يحتاجها ضمير الأمة، ومع تصاعد العدوان على غزة واستمرار المظالم في مناطق عديدة من عالمنا الإسلامي، تصبح كل لقمة إفطار وكل ركعة تراويح وكل كلمة وعظ فرصة لتذكير الأمة أن عبادتها لا تكتمل إلا إذا تحولت إلى مظلة حماية لكل مظلوم، وبهذا فقط يعود رمضان إلى صورته الأصلية كمدرسة أخلاقية تصنع أمة شاهدة على الناس، تقوم بالقسط وتنصر المستضعفين في الأرض.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة