«ميافارقين».. قصة صمود أسطوري هزَّ عرش المغول

أحمد بيومي

22 سبتمبر 2025

96

تحفر قصص الثبات في النفوس معانيَ عميقة تُغني عن آلاف الخطب، فالوقائع هي خير معين على تصور العواقب، ودحض الهواجس التي يتسلل منها الشيطان، وحسم سؤال الجدوى الذي تطرحه العقول باستمرار.

عقيدة الصدمة.. الهلع في مواجهة التتار

لقد بلغ الهلع من التتار مبلغًا عظيمًا بسبب وحشيتهم وانعدام رأفتهم، حتى كلّت الأيدي عن رفع السلاح، وعجزت العقول عن مجرد التفكير في المقاومة، ففي مشهدٍ يعكس «عقيدة الصدمة» التي خضع لها الناس يومئذ، يحكي ابن الأثير فيقول: «ولقد حُكي لي عنهم حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقى الله تعالى في قلوب الناس منهم، فحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلًا في طريق، فجاءنا فارس من التتر، وقال لنا حتى يكتّف بعضنا بعضًا، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد! فلم لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف! فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل! فأخذت سكينًا وقتلته وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير».

ولم يختلف حال ملوك ذلك الزمان عن الرعية، بل تملكهم الخوف من الإقدام على المقاومة فضلًا عن التسخط، يروي الهمذاني أن السلطان ‌عز ‌الدين، صاحب الروم، قد استُدعي مع أخيه ركن الدين لتهنئة هولاكو بفتح بغداد، وكان هولاكو غاضبًا منه، ففكر في حيلة تنقذ نفسه، وأمر بصنع حذاء ملكي في غاية الجودة، ونقش صورته على نعله، وقدّمه لهولاكو قائلًا: «إن أملي أن يشرف الملك رأس هذا العبد بأن يضع قدمه المباركة عليه!»، فرقّ له هولاكو وتشفعت فيه زوجته.

نجمٌ في سماء الخزي.. الملك الكامل محمد

في غمامة الخزي تلك، سطع نجم عزٍّ بدد الخوف من قلوب الأحرار، إنه السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن غازي، صاحب ميافارقين، لقد كان، كما وصفه الذهبي، «شابًا عاقلًا شجاعًا مجاهدًا، غازيًا ديِّنًا تقيًا».

كان الملك الكامل يداري التتار لسنوات، لكنه حين خبر حقيقتهم انقبض منهم وخلع طاعتهم، ورغم أنه حصل على فرمان بالأمان من منكوقاآن، ملك المغول الأعظم، فإنه طرد نواب التتر من ميافارقين، ولما أمره منكوقاآن بالتوجه للمشاركة في غزو بغداد ماطله وسوّفه.

وعندما تمدد هولاكو وسيطر على البلاد ونزل على بغداد، عزم الملك الكامل على المواجهة نجدة للخليفة، خرج بنفسه إلى الملك الناصر، صاحب دمشق، وقال له: إن هؤلاء التتر لا تُفيد معهم مداراة، ولا تنجح فيهم خدمة، وليس لهم غرض إلا في ذهاب الأنفس والاستيلاء على البلاد، وأنا فقد علمت أنني مقتول سواء كنت لهم أم عليهم، فاخترت بأن أكون باذلًا مهجتي في سبيل الله، وما الانتظار وقد نزلوا على بغداد؟! المصلحة خروج السلطان بعساكره لإنجاد المسلمين، وأنا بين يديه».

لكن الملك الناصر عرض عليه الوساطة لدى هولاكو، فأجابه الكامل باستنكار: «جئتك في أمر ديني تُعوّضُني عنه بأمرٍ دنيوي؟!»، وعاد إلى بلاده وقد أيقن أنه سيواجه مصيره وحده.

حصار ميافارقين.. ملحمة الصبر والقتال

بعد سقوط بغداد، قصدت عساكر المغول بقيادة يشموط بن هولاكو مدينة ميافارقين وأحاطت بها، قاتلهم أهلها قتالًا مستميتًا، فلما رأى المغول أنهم لن يأخذوها بالقوة، فرضوا عليها حصارًا خانقًا، وبنوا حولها مدينة بسور وأبراج، ونصبوا المنجنيقات من كل ناحية.

ومع الحصار، جاء الخذلان والخيانة، لم يمدهم جيرانهم بسلاح أو عتاد، بل على العكس، كانت النجدات تصل إلى جيش التتار من بدر الدين لؤلؤ، صاحب الموصل، وصاحب ماردين.

صبر أهل ميافارقين حتى أجبروا جيش المغول على الرحيل في الشتاء بسبب الثلوج ونفاد الأقوات، لكن التتار عادوا بجيوش أكثف، وشددوا الحصار، وطال الأمد، ونفدت الأقوات حتى أكل الناس الدواب والقطط والكلاب، بل ووصلت بهم الحال أن يأكلوا لحم موتاهم!

كل ذلك وهم صابرون، وكان الملك الكامل يخرج إليهم كل جمعة ويقول: «ليس غرض هؤلاء القوم غيري، دعوني أخرج إليهم وسلّموا البلد لتأمنوا على أنفسكم»، فيجيبونه بصوت واحد: «معاذ الله أن نفارقك حتى تروح أرواحنا!».

ورغم استغاثات نسائه اللاتي أرسلن شعورهن إلى دمشق طلبًا للنجدة، لم يأتِ مجيب، حاول المغول كسر عزيمته فأتوه بأولاده وزوجاته تحت السور وطلبوا منه التسليم بالأمان، فقال كلمته الخالدة: «ما لكم عندي إلّا السيف».

وبعد صمود دام عشرين شهرًا، لم تسقط المدينة إلا بخيانة مملوكين نصبا للمغول سلالم على السور، فدخلوها وقد فني أهلها جوعًا ووباءً وقتلًا، ولم يجدوا فيها سوى نفر قليل.

عزة المسلم في حضرة الطاغية

أُخذ الكامل أسيرًا، ومثل بين يدي هولاكو الذي قال له: «أمرتك بهدم سور آمد فما فعلت! وقلت لك: قاتل معي الخليفة فامتنعت! وعبرتُ على ديارك فلم تخرج إليَّ!».

فأجابه الكامل بعزة المسلم: «من أنت حتى أتحمل المشقة في رؤية وجهك؟! أنت ما لكَ قول ولا دين؛ بل خارجيٌ يجب عليَّ قتالك، وأنا خيرٌ منك»، فسأله هولاكو: «بأي شيء أنت خيرٌ منيِّ؟»، فقال: «لأنني أؤمن بالله ورسوله، ولي دينٌ وأمانةٌ، والمُلك بيد الله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، وكذلك يفعل الله بك إذا أراد، يرسل عليك من يقتلك، ويسبي ذرّيتك».

قيل: إن هولاكو ناوله كأسًا من الخمر، فامتنع وقال: «هذا حرام»، فبصق الكامل في وجه هولاكو، فاستشاط غضبًا وقتله، ثم قطع لحمه وأطعمه إياه، وضرب عنقه، حُمل رأسه على رمح وطيف به في حلب وحماة، ثم عُلّق على باب الفراديس في دمشق، وهناك دفنه المسلمون بعد هزيمة المغول، وقد نظم فيه الشيخ شهاب الدين أبو شامة قصيدة قال فيها:

ابن غازى غزا وجاهد قوما      أثخنوا في العراق والمشرقين

طاهراً عالياً، ومات شهيداً      بعد صبر عليهم عامين

لم يشنه إذ طيف بالرأس منه    وله أسوة برأس الحسين

هل كان الثمن يستحق؟ جدوى الصمود

إذا نظرنا بحساب الجدوى الدنيوية، نجد أن ضريبة الذل التي فر منها الأحرار كانت أعلى بكثير من ثمن الدم الذي بذله أهل ميافارقين، لقد كان التتار أهل غدر، وأمانهم كعدمه، وعاقبة السلم والحرب معهم واحدة؛ القتل والهوان.

  • قلعة حارم: سلّمت بالأمان بعد أن حلف لهم رجل مسلم يثقون به، فكان أول من قتله هولاكو، ثم أباد كل من في القلعة.
  • بدر الدين لؤلؤ (صاحب الموصل): سار مع هولاكو إلى آخر النفق، وقدم له كنوزه، وساعده في حصار ميافارقين، لكنه لم ينل رضاه، ولم يلبث أن هلكت دولته وحوصرت الموصل وأُخذت بعده.
  • الملك الناصر (صاحب دمشق): خذل الكامل وتقاعس، ولما اقترب التتار منه، فر هاربًا، وسقطت دمشق دون قتال، وعاث فيها النصارى الموالون للمغول فسادًا، أما هو، فقد قبض عليه التتار وعاش في ذل وهوان حتى قتله هولاكو بعد هزيمة «عين جالوت».

لقد أثبت صمود ميافارقين أن الموت بعزٍ خيرٌ من حياة الذل، وأن ضريبة الخنوع أفدح من ثمن المقاومة.

الأثر الخالد.. من «ميافارقين» إلى «عين جالوت»

من المؤكد أن وقوف ميافارقين في وجه المغول عشرين شهرًا قد حطم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وجرّأ غيرها على التمرد، وإن لم تثمر تلك المحاولات انتصارًا مباشرًا، إلا أنها كانت معاول هدم في صنم الخوف الذي خضع له الناس لسنوات، حتى أثمرت شجرة الصبر نصرًا مؤزرًا في «عين جالوت» في العام نفسه، فكانت بداية انكسار دولة المغول.

فرضي الله عن الملك الكامل صاحب ميافارقين وأهلها، وهو القائل:

تُرَى تَسْمَعُ الدنيا بما أنا طالبٌ        فلى عَزَمَاتٌ دونهن الكواكبُ

وإن يكن الناعى بموتى مُعرضاً         فأيُّ كريمٍ ما نَعَتْهُ النوائبُ

ومن كان ذكر الموت في كّل ساعةٍ     قريباً له هانت عليه المصائبُ

وما عجبي إلا تأسُّفُ عاقِلٍ           على ذاهبٍ من ماله وهو ذاهبُ


كلمات دلالية

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة