ناجيات تحدَّيْن الحرب في اليمن

فاطمة عبده

29 يناير 2025

9320

لا يمكن أن تقرأ مأساة الحرب في اليمن بمعزل عن انعكاساتها المدمرة على النساء، اللواتي وجدن أنفسهن فجأة في الصفوف الأمامية لتحمل أعباء النزوح والجوع والفقد؛ ففي كل زاوية من هذا البلد المكلوم، تقف امرأة تجمع شتات أسرتها، أو تكافح لتأمين لقمة عيش في زمن سرق منها كل شيء، بداية من زوجها، وأبيها، وأخيها، وابنها، وسلبها أسباب الطمأنينة بهدم بيتها، ليتركها تصارع منفردة غياهب حرب مستعرة ألقت بظلالها الثقيلة على كل جوانب حياتها.

ومع ذلك، لم تفقد نساء اليمن قدرتهن على المقاومة، ولم يترك اليأس مكاناً دائماً في قلوبهن التي تحملت فوق طاقتها، بل حملن على أكتافهن أوجاع المآسي، وسعين جاهدات للنهوض مجددًا، متحديات بالصبر والعزيمة الصراع المحتدم الذي يعصف بالبلاد منذ عام 2015م.

حاولنا أن نطوف إلى أعماق معاناة النساء الناجيات من الحرب، ونستمع إلى حكاياتهن المؤلمة عن الفقدان والنزوح، ونشهد على انتصاراتهن الصغيرة التي نبتت وسط الرماد، لنسطر قصصًا تجمع بين الحزن والأمل، وتكشف عن صلابة الروح الإنسانية أمام أشد المحن، لنجد بين الكلمات أن كل شهادة هي فصل من رواية طويلة عنوانها الصمود، سطرت بدموع الناجيات من ويلات الحرب والشتات.

بين الأنقاض وأمل البقاء

كانت أم يحيى، وهي امرأة في منتصف الأربعينيات، تعيش حياة بسيطة في صنعاء، حيث شكلت أجواء الأسرة المترابطة وشغفها بتربية أبنائها الثلاثة أبرز ملامح يومها.

وعندما شرعت في حديثها معنا، روت بصوت خافت مليء بالحسرة: «لم يكن لدينا الكثير، لكننا كنا نعيش بسلام، فكنا نجتمع حول مائدة العشاء يومياً، نتبادل الضحكات، ونتحدث عن أحلام صغيرة تشبه حياتنا»، لكن تلك الأحلام تحطمت فجأة في ليلة واحدة، عندما اخترق صوت انفجار قريب سكون المنزل، لتبدأ لحظة مأساوية غيّرت مسار حياتها إلى الأبد.

في تلك الليلة المشؤومة، استهدفت غارة جوية منزل العائلة، ولم تتذكر أم يحيى سوى صرخات أبنائها والغبار الذي ملأ المكان، قبل أن تدرك أن زوجها قد فارق الحياة، وابنها البكر البالغ من العمر 12 عاماً قد أصيب بجروح بالغة أفقدته القدرة على المشي، ولم تعد تلك الليلة مجرد ذكرى، بل أصبحت جرحاً مفتوحاً ينزف كلما نظرت إلى أبناء فقدوا الأمان، أو إلى شظايا المنزل الذي كان يوماً مصدر دفء واستقرار.

«لم أستطع البقاء هناك بعد ما حدث»، تقول أم يحيى، بصوت تذبحه ذكرياتها الأليمة: إنها لجأت مع أطفالها إلى أقارب لها في إحدى القرى الريفية النائية، حيث بدأت معركة جديدة مع الحياة، إذ كانت القرية تفتقر إلى أدنى مقومات العيش، لكن المرأة لم تستسلم لليأس، بل قررت أن تتعلم حياكة الملابس، تلك المهارة التي كانت قد رأتها في طفولتها، وساعدتها على ذلك إحدى المنظمات المحلية، التي أمدتها بماكينة خياطة صغيرة، لتبدأ في حياكة الملابس أملاً في تأمين قوت يومها.

واليوم، وبعد سنوات من تلك الكارثة، تدير أم يحيى ورشة صغيرة في منزلها الريفي، تحيك الثياب للأهالي، وتبيع ما تستطيع لبنات القرية في الأسواق المحلية، وتقول بفخر: «لم تتوقف الحياة، وإن كان ألمي غائر في قلبي، لكنني ما زلت أفعل ما بوسعي حتى أربي أبنائي ولا أكون عالة على غيري».

نازحة أضاءت الظلام

وفي تعز، تلك المدينة التي كانت يوماً تعج بالحياة والنشاط، عاشت سلمى حياة بسيطة مع زوجها وابنتيها الصغيرتين، فقد كانت أيامها تمضي بين رعاية أسرتها وأعمال المنزل، فيما كان زوجها يعمل في متجر صغير يكفي بالكاد لتغطية احتياجاتهم اليومية، إذ لم تطمح سلمى لأكثر من الاستقرار، لكن سرعان ما تبددت أحلامها عندما تحولت مدينتها إلى ساحة معركة مفتوحة، فاضطروا للنزوح تاركين خلفهم بيتهم وكل ما يمتلكونه.

تحكي سلمى، وهي تستعيد تلك اللحظات بمرارة: «كنا ننتقل من منزل إلى آخر، نحمل معنا حقيبة صغيرة وأمل العثور على مكان آمن، لكن الخوف كان يرافقنا في كل خطوة، وكأننا نسير في طريق لا نهاية له».

وفي إحدى محاولات النزوح، وبينما كانت العائلة تبحث عن مأوى بعيداً عن خطوط المواجهة، أصابت شظية ساق زوجها؛ ما جعله عاجزاً عن العمل، لتجد سلمى نفسها فجأة تحمل على عاتقها مسؤولية أسرتها، في وقت كانت فيه الحياة تضيق بهم من كل جانب.

تروي سلمى: «لم يكن لدينا ما يكفي من الماء أو الطعام، وكنت أقضي ساعات في طوابير طويلة للحصول على القليل من الماء، وفي الليل كنت أنام وأنا أفكر في كيفية إطعام بناتي».

وجدت سلمى نفسها مضطرة للعمل في تنظيف المنازل بالمناطق المجاورة للمخيم، لكنها كانت تعلم أن هذا العمل وحده لن يكون كافياً، فقررت أن تتعلم حرفة صناعة السلال من سعف النخيل، تقول: «كنت أراقب النساء في المخيم وهن ينسجن السلال، فطلبت منهن أن يعطينني فرصة لتعلمها»، وشيئاً فشيئاً، بدأت سلمى تتقن هذه الحرفة، وبمساعدة منظمة إنسانية وفرت لها المواد الأولية وبعض الأدوات البسيطة، تمكنت من إنتاج سلال وبيعها في السوق المحلية.

وعلى الرغم من كل ما مرت به، بدأت سلمى اليوم تحمل حلماً أكبر، إذ تقول بصوت مليء بالعزم: «أريد أن أفتح ورشة تدريبية لتعليم النساء النازحات صناعة السلال، ليساعدن أسرهن في العيش بحياة كريمة»، وتؤكد أنها ترى في هذا العمل فرصة لتغيير حياة الكثيرات ممن وجدن أنفسهن في ظروف مشابهة لظروفها، وتؤمن أن قوة النساء قادرة على صنع المعجزات حتى في أحلك الأوقات.

شجاعة تحت النار

وإلى الحديدة، إذ تروي جميلة، ابنة الخامسة والعشرين، كيف دمرت الحرب طفولتها واختطفت منها شبابها، قائلة: «كنت أساعد والدي في بيع السمك، وكنا نعيش حياة سعيدة وبسيطة، لكن الحرب أفسدت علينا كل شيء».

فقدت جميلة والدها خلال إحدى جولات القصف العشوائي؛ ما اضطرها لتولي مسؤولية إعالة أختها الصغيرة، إذ بدأت بالعمل في تنظيف المرافق الصحية في أحد المراكز الطبية في المدينة، وكان عليها أن تواجه نظرات المجتمع وأحكامه المسبقة؛ لكنها تقول: «كنت أعرف أنني لا أملك خياراً آخر، كنت أحتاج إلى العمل لتوفير الطعام لشقيقتي»، وبفضل عزيمتها ودعم طبيبة في المركز، بدأت مروة في تعلم التمريض، وهي اليوم تعمل مساعدة تمريضية، وتقدم خدمات طبية للنساء في حيها.

تضيف جميلة بصوت متعب: «الحرب سرقت مني أبي، لكنها منحتني القوة التي لم أكن أعرف أنني أملكها».

وكحال جميلة، تتحمل النساء في الحديدة عبئاً مزدوجاً من مسؤوليات اقتصادية ورعاية الأسر، ويعملن في بيئات خطرة ومعزولة، جراء ويلات الحرب الأهلية المستمرة التي لم تنطفئ منذ العام 2015م.

وهكذا، يتبدى لنا أن في صنعاء وتعز والحديدة، وكافة محافظات اليمن، تتنوع الوجوه وتختلف القصص، لكن المعاناة تبقى واحدة، كما هو الأمل؛ فبين ركام الدمار وأهوال النزوح والأعمال الشاقة، تقف النساء اليمنيات كأعمدة صلبة، يحملن على أكتافهن عبء إعادة بناء ما تهدم، ويدعمن مجتمعاتهن المدمرة.

ولم تكن قصص أم يحيى، وسلمى، وجميلة، سوى نماذج صغيرة من حكايات عظيمة تختبئ خلف جدران الصمت والوجع، ولكنهن، على الرغم من قسوة الظروف، يظللن رمزاً للقوة التي لا تُقهر، ولروح لا تقبل الانكسار، تُضيء طريق الأمل في مواجهة الحرب التي تعصف بالبلاد.

 

 


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة