نحن «الطوفان».. نحن اليوم التالي!

تواجه المقاومة الإسلامية في غزة والضفة حربًا ضروسًا قاسية، محلية وإقليمية، فضلًا عن وحشية العصابات النازية اليهودية التي تتسلح بأحدث أدوات القتل والتدمير يقدمها الغرب بقيادة الولايات المتحدة دعماً بغير حدود بوصف هذه العصابات قاعدتها المتقدمة في فلسطين المحتلة.
ولعل السبب الأساس في إخفاق هذه الحرب بفضل الله هو انطلاق المقاومة من تصور إسلامي راسخ، يؤمن بالجهاد ويعتنق الشهادة، ويؤمن أن فلسطين وقف إسلامي لا يجوز التفريط فيه ولا التنازل عنه.
ما كان أحد يتصور أن تصمد المقاومة الإسلامية بأسلحتها المتواضعة وأفرادها القلائل 15 شهرًا أمام العصابات النازية اليهودية، ولكنها صمدت وثبتت وأنزلت بالعدو خسائر لم تحدث له من قبل، واقتحمت قيادة «فرقة غزة» الإجرامية، وأسرت عددًا لا بأس به من عصاباته، وأرغمت العدو على توقيع الهدنة وتبادل الأسرى، وجعلت من هذا التبادل مجالًا لإرسال خطابات إلى العالم الصليبي الهمجي والعصابات النازية اليهودية، والمتواطئين العرب، وفي مقدمة هذه الرسائل أن المقاومة ما زالت حية، وأن المقاومين يقفون أمام كاميرات العالم يقولون: نحن هنا، وإن المتخاذلين المهرولين إلى التطبيع يجب أن يتوقفوا!
في عملية التبادل الخامسة التي تمت في دير البلح كانت صور القادة الشهداء تسطع على لافتة تزين منصة التسليم، وتقول بالعربي الفصيح: «نحن الطوفان.. نحن اليوم التالي»؛ وذلك ردًا على من تصوروا أن المقاومة انتهت، وأن المتلمّظين لحكم غزة بشروط العصابات النازية اليهودية خاب سعيهم.
وبالإضافة إلى ذلك، تقول المنصة واللافتة لمن أراد أن يعيش الخيال ويهجّر أهل غزة إلى أماكن أخرى خارج فلسطين، أو يشتري القطاع ويحوله إلى «ريفييرا»: «نحن هنا باقون حتى النصر أو الشهادة»!
إن المقاومة المباركة يوم تشكلت لم يكن أحد يتوقع أن تهز القتلة النازيين بهذه الصورة، وتضع أنفهم في الرغام، مع فداحة الخسائر والتدمير (قرابة 50 ألف شهيد معظمهم من الأطفال والنساء، عدا الآلاف الذين ما زالوا تحت الركام، وأكثر من 100 ألف مصاب وجريح)، وقد استطاعت المقاومة أن تحرك الشارع في «تل أبيب» المحتلة ضد القيادة النازية اليهودية المجرمة، بما يمثل صداعًا لم يتوقف حتى الآن من أجل أسراهم الذين ما زالوا في حوزة المقاومة!
ومع الأداء البطولي للمقاومة الإسلامية ضد العدو، فإن القتلة وأعوانهم من القاعدين عن الجهاد والمواجهة، ما زالوا يضغطون عليها، ويطلبون علناً وفي خسة لا تخفي بإخراج «حماس» من المعادلة، وتسليم القطاع لمن باعوا فسطين، وراحوا يزعمون أنهم ساعدوا الشعب الفلسطيني بكثير من الأموال، وكأنهم يضعون أنفسهم مثل أشباه لهم في صدر الدعوة؛ (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة: 19).
وعندما دعوا إلى الجهاد استأذنوا بالانصراف والقعود في الظل، وترك الضعفاء يواجهون القتلة الهمج بصدورهم العارية؛ (لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ {44} إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (التوبة).
ولا يخجلون من الاستئذان وهم يملكون المال والسلاح ويستطيعون لو أخلصوا أن يغيروا المعادلة لصالح الأرض المقدسة والأمة الإسلامية والقدس الأسيرة؛ (وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: 86).
وكان من معالم الضغط على «حماس»، ذلك القرار الطائش الذي أصدره رئيس السلطة الفلسطينية في رام الله بإلغاء مخصصات الشهداء والمصابين؛ ما يشكل عبئاً على «حماس» والمقاومة عموماً.
قال أحدهم: فلتتنحَّ «حماس» ليس رأيي، بل هو رأي الأمين العام لجامعة الدول العربية، الذي قال: «فلتتنحّ حماس إذا اقتضت المصلحة الفلسطينية ذلك»، وهذا هو الرأي الصواب في ظل الأزمة المتصاعدة في المنطقة، وهي أزمة خطرة.
نعم، المصلحة الفلسطينية تقتضي ذلك، وهذا هو الأهم، والأوضح، بل وصوت العقل، وهو ما يجب أن يقال أيضاً عربياً، وقبل هذا وذاك من قِبل السلطة الفلسطينية نفسه، يقول العبيد.
وليس في القصة عاطفة، بل خطر حقيقي على غزة، والقضية برمتها، وخطر لا لبس فيه على كل من الأردن ومصر، والأمن القومي العربي برمته، ومن شأن ما يحدث الآن، وما قد يترتب عليه، إعادة التطرف والإرهاب (يقصد الإسلام) إلى المنطقة!
ثم يخرج أحدهم في مقابلة مع الصحفي الأمريكي تاكر كارلسون، في 8 فبراير 2025م، ليدلي بتصريحات مثيرة، يعرب فيها عن رغبته في تدمير «حماس» بالكامل، وفتح صفحة جديدة في الشرق الأوسط، مشيرًا إلى أن ما حدث في 7 أكتوبر «هجوم إرهابي»، لكنه في المقابل انتقد رد الفعل اليهودي، واصفًا إياه بـ«غير المتناسب» نظرًا لأنه أدى إلى محو شمال قطاع غزة بالكامل، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والجامعات.
هذا هو رأي القاعدين الذين ينفقون على المؤتمرات الإنشائية والمهارج التافهة، ما يكفي لإطعام القطاع وأهله الجائعين، ويتصورون أن إزاحة «حماس» ستجعل السلام يحل في الدنيا جميعاً، ويعود الفلسطينيون إلى بيوتهم من مهاجرهم، وتقوم الدولة الفلسطينية الهشة على الأرض المحتلة في عام 1967م! وراجعوا تصريحات زعماء القتلة اليهود الذين أعلنوا بالفم الملآن لا دولة ولا سلام مع الفلسطينيين إلا بتصفيتهم أو إبادتهم، كما جرى أخيرًا فيما يسمونه عملية «السيف الحديدي» التي أعقبت عملية «طوفان الأقصى»!
لو قرؤوا التاريخ واستوعبوا الأحداث لعرفوا أن العصابات النازية اليهودية من البلماخ إلى الإرجون زفاي ليومي والهاجاناه والشتيرن والمتطوعين اليهود من خارج حدود الانتداب البريطاني على فلسطين لم ينحّ أحدهم الآخر، بل إنهم صاروا يقودون الكيان الغاصب، ويحصلون على جوائز «نوبل»، وتذكروا جابوتنسكي، وبن جوريون، ووايزمان، ومائير، وبيجن، وبيرز.. وآخرين قتلوا العرب ودمروا بيوتهم وهجروهم وصاروا حكامًا في الوطن الأسير!
إن الأجيال النازية اليهودية الراهنة لا تبالي بالعرب ولا المسلمين، لأن هؤلاء لم يقاوموهم، بل استسلموا لهم، وانتظروا الفرج يأتي من ماما أمريكا التي صنعوا منها غولًا خرافيًا يرعبهم في أسرّتهم ومنامهم!
أكثر من وزير نازي يهودي آخرهم إيلي كوهين وزير الطاقة، يعلن بوقاحة: «من يريد إقامة دولة فلسطينية، فليفعل ذلك على أراضيه».
بالطبع كانت تصريحات دونالد ترمب مشجعة على الوقاحة النازية اليهودية، حين جعل غزة قطعة عقارية يسعى لتملكها وتهجير أهلها، ولا يسمح لهم بالعودة!
لن نتكلم عن مواقف الدول التي أراد ترمب أن يستولي على أجزاء منها أو يفرض عليها جمارك مرتفعة، فقد ردّوا بما أغلق فمه، ولكن ننظر إلى الذين لا يترددون في قتل بعضهم بعضًا واستخدام الأسلحة المتقدمة للانتصار على أخوة الوطن، ثم تجاهلوا قيم الإسلام في الحروب!
لماذا لا تكون هذه الشجاعة والنهوض للقتال مع العدو النازي اليهود الذي أذل العرب والمسلمين، ويعلن أنه يحقق نبوءات كتابه المقدس وفي مقدمتها نبوءة أشعياء، بذبح الأعداء وبقر بطونهم وتدمير بيوتهم وزروعهم وخراب أوطانهم واستعباد شعوبهم، ولا يخافت بذلك، بل يعلنه أمام الكاميرات وعلى الشاشات، بينما الأشاوس يخجلون من الإشارة إلى القرآن الكريم أو الإسلام، ويرونه تطرفاً وتشدداً وإرهاباً!
الشجاعة يجب أن تكون ضد الأعداء وليس ضد الشعوب، أو استجداء الحلول من الضباع المتوحشة، هذا نوع من العبث، وهناك حلول غير قتالية يمكن أن يستخدمها العرب والمسلمون القاعدون وتؤدي إلى نتائج إيجابية ملموسة، على الأقل توقف العدو عند حدود لا يتعداها إلى الإبادة والقتل الممنهج.
وفي مقدمة هذه الحلول الحل الاقتصادي، إذا هدد الأمريكيون بلدًا عربيًا بقطع المعونة الاقتصادية، فإن الرابح هو البلد العربي إذا تمكن من توظيف اقتصاده بصورة إيجابية، مثلًا: المعونة الاقتصادية لو جاءت بدولار واحد للبلد العربي، فإن هذا البلد يشتري بضائع من أمريكا بما يعادل 77 دولارًا، ترى لو أن هذه الدولارات تحولت إلى بلد آخر، أو أقامت مصانع محلية تنتج ما تشتريه من دولة المعونة؟ النتيجة معروفة، وسيتراجع المانح عن تهديداته.
لن نتكلم عن البترول والغاز، وشراء السلاح الذي يصدأ في المخازن، وفك الارتباط بالمعاهدات العسكرية والأمنية وغيرها، فالسياسة تقوم على تبادل المصالح.
نحن الطوفان.. نحن اليوم التالي.. فاعتبروا يا أولي الألباب.