نصرة المظلوم في الشريعة

أوجب الإسلام
العدل، وحرم الظلم وحذر من عواقبه، وحث على ردع الظالم الباغي ونصرة المظلوم، وما
ذلك إلا لأن العدل هو عماد المجتمعات، فلا تقوم إلا به، ونقيضه الظلم؛ وهو أهم
دواعي تحللها وفسادها.
ونصرة المظلوم
ليست فضيلة وخلق حسن يدعو إليه الإسلام، وإنما هو أمر تقرر بموجب عقيدة الولاء،
كما أنها واجب شرعي لاندراجها تحت باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والنصوص متواترة
على وجوب مقاومة الظلم واستئصال الظالمين، ومنها قول الله تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 45)، ونهى سبحانه عن الركون إليهم؛ (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ
ظَلَمُواْ) (هود: 113)، وهو لا يرضى سبحانه لعباده الرضوخ وقبول بالضيم بحجة
الاستضعاف؛ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ
الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً
فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا) (النساء: 97).
نصرة المظلوم ليست فضيلة وخلق حسن يدعو إليه
الإسلام بل أمر تقرر بموجب عقيدة الولاء
وحذر النبي صلى
الله عليه وسلم من عاقبة خذلان المسلم لأخيه المستضعف؛ إذ يقول: «ما من امرئ مسلم
يخذل امرأ مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه؛ إلا خذله الله في
موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ مسلم ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه،
وينتهك فيه من حرمته؛ إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته»، وعن البراء بن عازب
قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصرة المظلوم».
وقد جسد الفقهاء
والمشرعون والقضاة والولاة هذه النصوص إلى واقع إجرائي، ويمكن في هذا السياق
الحديث عن ثلاث ركائز تشكلت منها منظومة نصرة المظلوم، وهي: القواعد والنصوص
الفقهية، ومؤسسة القضاء، ومؤسسة ولاية المظالم.
قواعد
فقهية
وفي المقدمة
تأتي القواعد الفقهية الضابطة لأمر العدل، وهي بمثابة القانون الذي يطبق في
المحاكم الإسلامية على امتداد العالم الإسلامي، ومن أهم القواعد الفقهية في هذا
الباب قاعدة «لا ضرر ولا ضرار»؛ وهي من القواعد الكلية للشريعة التي تكفل إزالة
الضرر الواقع على المظلوم، وتفرع عنها قواعد فرعية تنظم عملية إزالة الضرر، مثل: «الضرر
يزال»، و«الضرر يزال بقدر الإمكان»، و«الضرر لا يزال بمثله»، ومنها قاعدة «ليس
للمظلوم أن يظلم غيره»؛ وتعني أن له أن يسترد حقه لكن ليس له أن يتعدى ويصبح ظالماً
حتى ممن ظلمه، ومنها قاعدة «الإكراه يبطل العقد»؛ وتعني بطلان عقود المكره بما في
ذلك عقود الزواج والطلاق، وغير ذلك كثير.
النبي صلى الله عليه وسلم حذر من عاقبة خذلان
المسلم لأخيه المستضعف وحثَّ على نصرته
ويدعم هذه
القواعد كثير من النصوص التي بينت الحكم الشرعي لنصرة المظلوم، ومنها قول ابن حجر:
«نصر المظلوم فرض كفاية، وهو عام في المظلومين، وكذلك في الناصرين؛ بناء على أن
فرض الكفاية مخاطب به الجميع وهو الراجح، ويتعين أحياناً على من له القدرة عليه
وحده إذا لم يترتب على إنكاره مفسدة أشد من مفسدة المنكر.. وشرط الناصر أن يكون
عالماً بكون الفعل ظلماً ويقع النصر مع وقوع الظلم وهو حينئذ حقيقة، وقد يقع قبل
وقوعه كمن أنقذ إنساناً من يد إنسان طالبه بمال ظلماً وهدده إن لم يبذله وقد يقع
بعد وهو كثير»؛ ويفهم من كلام ابن حجر جواز القيام بالنصرة قبل وقوع الظلم
بالحيلولة بين الظالم والمظلوم إن أمكن.
ويقول العيني في
«عمدة القاري»: «نصر المظلوم فرض واجب على المؤمنين على الكفاية، فمن قام به سقط
عن الباقين، ويتعين فرض ذلك على السلطان، ثم على من له قدرة على نصرته إذا لم يكن
هناك من ينصره غيره من سلطان وشبهه»؛ وهنا يبين العيني أن ولي الأمر مكلف بنصرة
المظلوم، فإن لم يفعل انتقل هذا إلى من يستطيع، وهو ما يعني أن حق النصرة لا يسقط
إن لم يقم به الإمام انتقل إلى آحاد الرعية.
اقرأ أيضاً: الأمة.. والمنع من الظلم
وأما المؤسسة
القضائية، فهي المسؤولة عن تطبيق القواعد والنصوص الفقهية على الوقائع، ويبين العز
بن عبدالسلام في «قواعد الأحكام» غاية المؤسسة القضائية بالقول: «الغرض من نصب
القضاة إنصاف المظلومين من الظالمين، وتوفير الحقوق على المستحقين، والنظر لمن
يتعذر نظره لنفسه كالصبيان والمجانين والمبذرين والغائبين، فلذلك كان سلوك أقرب
الطرق في القضاء واجباً على الفور؛ لما فيه من إيصال الحقوق إلى المستحقين ودرء
المفسدة عن الظالمين والمبطلين».
ومن الناحية
الواقعية، كانت هناك ضمانات تعمل على رد المظالم، ومنها مد زمن رفع الدعوى إلى 15
عاماً أملاً في أن تتوافر الظروف للمظلوم أن يقاضي ظالمه، ومنها عمل المحاكم
بقاعدة «الحق لا يسقط بمضي الزمان»، وغير ذلك كثير مما يضيق المقام عن ذكره.
ديوان
المظالم
وأخيراً تأتي
ولاية المظالم، أو ديوان المظالم؛ وهي مؤسسة فريدة في التاريخ الإسلامي، ويأتي
عملها بعد المؤسسة القضائية، إذ ربما يكون الظالم ممن لا تمتد إليهم يد القضاء
كالسلطان والشرطة وغيرهم، ويصف الماوردي في «السياسة الشرعية» طبيعتها ودواعي
إنشائها بقوله: «نظر المظالم هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، وزجر
المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر،
نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفة، قليل الطمع، كثير الورع.. وكان عمر بن عبد
العزيز أول من ندب نفسه للنظر في المظالم، فردها وراعى السنن العادلة وأعادها، ورد
مظالم بني أمية على أهلها.. ثم جلس لها جماعة من خلفاء بني العباس».
المؤسسات القضائية هي المسؤولة عن تطبيق
القواعد والنصوص الفقهية على الوقائع
ويذهب الماوردي إلى أن نظر المظالم لا يكون لولي الأمر -خلافاً لما كانت عليه الحال في صدر الإسلام- ربما لانغماسهم في الجور وبُعدهم عن الطريق القويم الذي سار عليه الخلفاء الراشدون، ولذلك ينبغي أن يتقلد هذا المنصب شخصية مستقلة من خارج مؤسسة الحكم ومؤسسة القضاء، وهو لا يضطلع وحده بالنظر في المظالم، وإنما يعاونه بعضهم، وهم: الأعوان الذين يحضرون المظلوم، وقضاة الشرع والمحاكم للاستعلام منهم عن الدعاوى والحقوق التي نظروها، والفقهاء ورجال الشريعة للرجوع إليهم إذا التبس عليه نص أو خفي عليه حكم الشريعة، والكتبة الذين يدونون ما جرى بين الخصوم ويثبتونه في سجلات ومحاضر، والشهود الذين يشهدون بما علموا من خصومة الخصوم.
اقرأ أيضاً: مهارات مناصرة المظلوم
وبالجملة، اجتهد رجال الشريعة والقضاة والولاة في صياغة منظومة متكاملة نظرياً ومؤسسياً يمكن من خلالها نصرة المظلوم وردع الظالم.