نظام التعاقدات في قوانين العمل مقارنة بأحكام الشريعة الإسلامية
تشكل قوانين
التعاقد مع العمال زاوية أساسية في دساتير الدول وقوانينها التفصيلية، حيث تحرص كل
دولة على وضع قواعد عامة تسير عليها تلك التعاقدات بما يحقق مصلحة طرفي التعاقد
(العامل وصاحب العمل).
وهناك قوانين
عامة حرصت المؤسسات الدولية على وضعها كحد أدني للحفاظ على مصلحة العامل في المقام
الأول، تشابكت مع القوانين الخاصة بكل دولة، ويقاس تقدم كل دولة وحقوق الإنسان بها
على مدى احترامها لتلك المواثيق التي تعني بمصلحة الطرف الأضعف في تلك المنظومة،
ومدى ضمان حقوق وواجبات كل طرف والحرص على تحقيقها وحمايتها لتحقيق الغاية منها.
ولم يتم تنظيم
تلك العلاقة عالمياً إلا مؤخراً، وتحديداً قبيل النصف الثاني من القرن الماضي، وقد
تناولت الشريعة الإسلامية منذ ما يزيد على 14 قرناً تنظيم تلك العلاقة في إطار
أخلاقي وإنساني يؤكد قيم العدالة والرحمة التي وضعها الإسلام كدين حاكم كمقصد من
مقاصده.
في الأسطر التالية، نتناول مقارنة بين عدالة ورحمة الإسلام في نظام التعاقد بين العامل وصاحب العمل، والتنظيم القانوني الحديث للعقود المعمول بها في زماننا.
أولاً: مفهوم العقد:
العقد في
المفهوم الإسلامي حيث ذكر أبو بكر الجصاص أن له معنيين؛ العقد هو ما يعقده العاقد
على أمر يفعله هو أو ما يعقد على غيره فعله على وجه إلزامه إياه، فسُمي البيع
والنكاح وسائر عقود المعاوضات عقوداً لأن كل واحد من طرفي العقد ألزم نفسه الوفاء
به، وسُمي اليمين على المستقبل عقداً لأن الحالف ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من
الفعل أو الترك، وكذلك العهد والأمانة
لأن معطيها قد ألزم نفسه الوفاء بها، وكذا كل ما شرط الإنسان على نفسه في شيء
يفعله في المستقبل فهو عقد وكذلك النذور وما جرى مجرى ذلك.
العقد في
المفهوم القانوني: هو توافق إرادتين أو أكثر على إنشاء رابطة قانونية أو تعديلها
أو إنهائها، ويميز بعض شراح القانون بين الاتفاق والعقد، فالاتفاق عندهم هو توافق
إرادتين أو أكثر على إنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهائه، وأما العقد فهو
أخص من الاتفاق عند هؤلاء؛ فهو يقتصر على إنشاء التزام أو نقله فقط، وهذه التفرقة
لها جذور تاريخية نقلها القانون المدني الفرنسي عن بعض شراح القانون القدامى.
ثانياً:
أنظمة التعاقدات في قوانين العمل الحديثة:
تستند قوانين
العمل الحديثة إلى تنظيم العلاقة التعاقدية من خلال عدة أشكال:
1- العقد الدائم
(غير محدد المدة): هو أكثر أشكال التعاقد استقرارًا، يمنح العامل أمانًا وظيفيًا
ويُلزم صاحب العمل بإجراءات واضحة في حال إنهاء العلاقة، مثل تقاضيه معاشاً ثابتاً
أو تأميناً يضمن له دخلاً ثابتاً يمثل نسبة من راتبه الأساسي (وإن كان لا يكفيه)
بعد توقفه عن العمل لسبب ما مثل بلوغه سن المعاش، أو إصابته وعجزه عن العمل.
2-
العقد المؤقت (محدد المدة):
يُبرم لمدة
زمنية محددة تنتهي بانتهاء المدة، وقد يتم تجديده باتفاق الطرفين، فيوقع العامل
لمدة سنة أو سنتين بالتراضي، تجدد إذا كانت هناك حاجة لتجديد العقد، أو يعتبر
العقد لاغياً إذا لم يتم توقيع عقد جديد.
3-
عقود العمل الجزئي أو المرن:
تتيح للعامل
العمل بعدد ساعات أقل من العمل الكامل؛ ما يوفّر مرونة للطلاب أو الأمهات أو من
يعملون بوظائف متعددة، ويطبق ذلك النظام في أكثر من دولة عربية، حيث يضطر بعض
الطلاب للعمل والتكسب من باب مساعدة أولياء أمورهم، ومن النساء من تعمل بنصف دوام
لحاجتها لبعض المال، وفي ذات الوقت لا تستطيع العمل طوال الوقت لحاجة أبنائها
إليها، فتلجأ في هذه الحالة للعمل بدوام جزئي كأن يكون نصف أيام الأسبوع، أو كل
أيام الأسبوع لكن لنصف ساعات العمل فقط.
ثالثاً:
التعاقدات في الشريعة الإسلامية (عقد الإجارة):
في الفقه
الإسلامي، يعادل عقد العمل ما يُعرف بـ«عقد الإجارة»؛ وهو عقد على منافع الأبدان
مقابل عوض معلوم، وتؤكد الشريعة عدة مبادئ أساسية:
1- وجوب توضيح
الأجر وشروط العمل، فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا استأجر أحدكم
أجيراً فليعلمه أجره» (رواه الطبراني)، وقد عد الفقهاء جهل الأجر أو الشروط من
موجبات بطلان العقد.
2- أداء الأجر
في وقته بغير تسويف، فإن كان بالشهر فليكن بانتهاء الشهر، وإن كان باليوم فليكن
بمجرد انتهاء اليوم وهكذا، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير
أجره قبل أن يجف عرقه» (رواه ابن ماجة).
3- تحريم الظلم أو الاستغلال، لقول الله تعالى: (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) (هود: 85)؛ أي لا تنقصوا العمال حقوقهم أو تستغلوا حاجتهم.
وبالمقارنة بين نظامي التعاقد في الإسلام وفي القوانين الوضعية، نجد أن هناك جملة من الحقوق الأخلاقية ضمنها الإسلام وغفلتها القوانين الوضعية، ففي الوقت الذي ركزت فيه القوانين على الأجر ووقت التقاضي دون الالتفات لتلك الأمور الإنسانية، ساقت النصوص الشرعية حقوقاً أخرى، منها:
- حق الموظف في
حفظ كرامته وتقدير إنسانيته: وذلك بصرف النظر عن نوع وظيفته، أو دينه، أو عرقه،
فيقول أنس بن مالك: خدمتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عشرَ سنينَ، فما
قال لي: أُفٍّ قطُّ، وما قال لي لشيٍء صنعتُه: لِمَ صنعتَه، ولا لشيٍء تركتُه لِمَ
تركتَه» (متفق عليه)، فليس لصاحب العمل أن يشعر العامل بالمهانة، أو أن يذله حتى
يعطيه أجره، بل عليه أن يشكره إذا انتهى منه بشكل جيد ويعينه عليه إن استطاع.
- حق الموظف في
تقدير حجم الأعمال الموكولة إليه: فليس من العدل أو الرحمة بالإنسان أن تكلف عاملاً
واحداً بما هو في طاقة اثنين أو ثلاث لتوفر أجر عامل آخر، هو أمر يتعارض مع
الشريعة الإسلامية ولا تقره، فالقاعدة الإسلامية تقول: «لا تكليف إلا بمقدور»،
ويقول تعالى: (لَا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: 286)، فلا يستغل حاجته للمال
لتحميله فوق ما يطيق بحجة أن غيره موجود وسوف يقبل بأقل من ذلك في الأجر، وأكثر من
ذلك في الجهد، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالرقيق الذين هم درجة أقل من
العمال فقال: «للمملوك طعامه وكسوته، ولا يُكلف إلا ما يطيق؛ فإن كلفتموهم
فأعينوهم، ولا تعذبوا عباد الله؛ خلقًا أمثالكم» (رواه البخاري في الأدب المفرد).
- حق الموظف في
أداء فرائضه: فالإنسان من حقه أداء فرائض دينه، فيجب على صاحب العمل أن ينظم
أوقاته تبعاً لأوقات الصلاة، وفي شهر رمضان يضبطها بأوقات الإفطار، فلا يعطله عن
فرائض مكتوبة عليه بحجة أن ذلك يعطل العمل، ومن أشد أنواع الظلم أن تمنع إنساناً
من أداء شعائر دينه، وفوق أنه ظلم، فهو صد عن سبيل الله، يقول تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) (إبراهيم: 3).
- حق الموظف في
حصوله على أجر عادل: يلجأ بعض أصحاب الأعمال لبخس أجور العاملين لديهم إذا كانت
العمالة كثيرة والأعمال المعروضة أقل، فهو يستغل حاجة الناس وقبول البعض بأجور
زهيدة لعدم توافر بديل، في بخس حقوق الناس.
وقد وردت تلك
الحقوق في كتاب في أكثر من موضع، فيقول تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ
أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (الأحقاف: 3)، وقد شدد الإسلام على
الوفاء بحقوق العاملين دون مماطلة أو نقصان، ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «ثلاثة
أنا خصمهم يوم القيامة: رجلٌ أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل
استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره» (حديثٌ حسن).
وفي القوانين
الوضعية تجد في معظم البلدان أن الحد الأدنى من الأجور لا يوازي حاجة الفرد بحال
من الأحوال، ولذلك فقد أولى الإسلام تلك النقطة اهتماماً خاصاً، بالطبع هناك فروق
في أجور الوظائف، فليس عامل النظافة مثل عالم المختبر وهكذا، ولكن مسألة العدالة
الاجتماعية في الإسلام لها شأن آخر مع فتح أبواب أخرى غير الأجور لتغطية احتياجات
هذا الإنسان مع حفظ كرامته في المقام الأول عن طريق الصدقات والزكاة.
لقد وضع الإسلام
نظاماً اقتصادياً وعملياً وأدبياً واجتماعياً يضمن الناس به حقوقهم، ويضمن أصحاب
العمل به تنمية أعمالهم والنهوض بها وتوسعتها، ومع أن بعض دول الخليج تقترب في
تشريعاتها من المنظومة الأخلاقية الإسلامية، فإنه ما زال هناك كثير من الخروقات
الفردية لتلك القيم الأخلاقية، يجب أن تراعيها كل دولة وتتابعها وتراقبها كي تتحقق
العدالة كاملة في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية.