نظام القرآن.. حين يقود التفسير إلى التدبر

تفسير القرآن
علم يعنى بكشف اللثام عن معانيه اللغوية والشرعية وما هو منهما؛ فهو إعمال للقوة
العلمية، أما التدبر فيعنى بإدراك مغزى الآيات ومقاصدها، وتلمس هداياتها، وعقد
القلب عليها؛ فهو إعمال للقوة العقلية، ومتى ما قاد التفسير إلى التدبر تحقق
المقصود الأمثل من إنزال الكتاب، (كِتَابٌ
أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو
الْأَلْبَابِ) (ص: 29).
وإن من أعظم
مناهج التفسير المُعبِّدة لتدبر كتاب الله منهج نظام القرآن، وهذه كلمات في
التعريف به وبيان شرفه والحث عليه.
أصل
«نظام القرآن»
لعل أول إشارة
لأصل نظام القرآن لغويةً؛ فإن كلمة قرآن من «قرأ»؛ أي: جمع، و«مقروء»؛ أي: مجموع،
و«قرآن»؛ يعني: مجموع بعضه إلى بعض.
وقد اتخذ ذلك
منهجًا بشأن التفسير عدد من أهل العلم متقدمين ومتأخرين، قال مسلم بن يسار (ت 100هـ):
«إذا حدثت عن الله حديثًا فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده» (نقلًا عن تفسير ابن
كثير 1/ 17)، وسماه عدد من أهل العلم الترتيبات والروابط.
قال الفخر
الرازي: «أكثر لطائف القرآن مودَعة في الترتيبات والروابط» (الإتقان في علوم
القرآن للسيوطي 2/ 138)، وسموه علم المناسبات أيضًا، قال الرازي أيضًا: «علم
المناسبات علم عظيم أودعت فيه أكثر لطائف القرآن وروائعه، وهو أمر معقول إذا عرض
على العقول تلقته بالقبول» (نقلًا عن البرهان في علوم القرآن للزركشي 1/ 35)، واصطلحوا
عليه بتلك التسمية في الغالب.
قال الزركشي: «واعلم
أن المناسبة علم شـريــف تحزر به العقول، ويعرف به قدر القائل فيما يقول» (البرهان
1/ 36)، وكان أول من أظهره أبو بكر النيسابوري (ت 324هـ) في بغداد، وكان يزري على
علماء بغداد لجهلهم وجوه المناسبة بين الآيات، وكان إذا قرئت عليه آية أو سورة
يقول: لِمَ جُعلت هذه الآية إلى هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه
السورة (نقلًا عن الإتقان 2/ 217).
وإذا نظرنا إلى تلك التعريفات، نجد أنها تبحث التناسب بين الآيات وترتيبها وكذلك السور للوصول إلى أوجه التفسير المرضية، ثم تطور هذا المنهج لاحقًا حتى وصل إلى العناية بالنظام بوجه أكثر دقة وأعمق رؤية.
خطوات لتدبر القرآن.. في الصلاة وناشئة الليل
التعريف
بنظام القرآن
وإن أردنا
التعريف بنظام القرآن في أدق صوره الذي تبلور عليها فهو ارتباط آي القرآن بعضها بعضاً
إلى حد اعتبار أن كل سورة من سوره مهما تعددت قضاياها فهي كالكلمة الواحدة، يتعلق
أولها بآخرها وتؤول جملتها إلى غرض واحد.
وقد استقر بنيان
هذا المنهج في آخر ما بلغنا نضجًا عند حميد الدين الفراهي (ت 1349هـ) العالم
الهندي الموسوعي، يقول في التعريف به: «ومرادنا بالنظام أن تكون السورة وحدة
متكاملة، ثم تكون ذات مناسبة بالسورة السابقة واللاحقة.. وعلى هذا الأصل ترى
القرآن كله كلامًا واحدًا ذا مناسبة وترتيب في أجزائه من الأول إلى الآخِر» (دلائل
النظام، ص 75).
الفرق
بين النظام والمناسبة
وقد ذكر الفراهي
أن اهتمام السابقين كان منحصراً في الكشف عن المناسبات، فقنعوا بها من غير أن
ينظروا إلى أمر أعم وأشمل ينتظم به فهم كل الكتاب؛ وهو النظام، ففرَّق بذلك بين
التناسب والنظام، قال: «قد صنف بعض العلماء في تناسب الآيات والسور، أما الكلام في
نظام القرآن فلم أطلع عليه، والفرق بينهما أن التناسب إنما هو جزء من النظام؛ فإن
التناسب بين الآيات بعضها مع بعض لا يكشف عن كون الكلام شيئاً واحداً مستقلًا
بنفسه، وطالِب التناسب ربما يقنع بمناسبة بين الآيات المتجاورة مع عدم اتصالها؛
فإن الآية التالية ربما تكون متصلة بالتي قبلها على بُعد منها، ولولا ذلك لما عجز
الأذكياء عن إدراك التناسب» (دلائل النظام، ص 17).
أصول
منهج نظام القرآن
ونستطيع أن نجمل
أصول هذا المنهج الفريد على اختصار في الآتي:
1- أن بين كل
سورة قرآنية وحدة موضوعية يسميها الفراهي «عمود السورة» تدور حوله جميع موضوعات
السورة.
2- أن البحث عن «عمود
السورة» هو من باب تفسير القرآن بالقرآن، وهو أشرف وأعظم ما يُتأول به كتاب الله،
وعليه المعتمد الأكبر، ثم يليه تفسير القرآن بصحاح الأحاديث.
3- أن نظام
القرآن ليس مقصودًا لذاته؛ وإنما هو المنهج الصحيح لتدبر كتاب الله وجمع بعضه إلى
بعض واستخراج كنوز حكمة القرآن.
4- أن القرآن قد
نزل بالحكمة التي لا تتأتى بمجرد إلقاء المعارف، بل بإعمال الفكر والعقل؛ ولذا فإن
التدبر هو مقصد هذا المنهج.
ميزات
نظام القرآن
وميزات هذا
المنهج عديدة وعظيمة، منها:
1- تفادي كثير
من الخلاف في تأويل آيات الكتاب، فإن «عمود السورة» لو استبان للمفسر لاستطاع
تأويل الآيات تأويلًا صحيحًا تصدق فيه الآيات بعضها بعضًا.
2- جمع الأمة
الإسلامية على كلمة سواء في رد عادية الصائلين على القرآن الكريم الطاعنين فيه
المحرفين تفسيره المتبعين متشابهه التاركين محكمه.
3- استخراج كنوز
القرآن وحكمته وأسرار إعجازه وعظيم بيانه وسمو بلاغته.
4- ظهور حكمة
وجود الآيات المكررة، فكل منها في موقعه لها دلالة متمايزة عن الأخرى تحددها عمود
السورة.
5- التمييز بين
صحيح الآثار التفسيرية وضعيفها من جهة المعاني التي استفيدت من النظام.
6- ما يؤول إليه
جميع ما سبق من زيادة الإيمان واليقين والتلذذ بحلاوة القرآن وطمأنينة القلب به.
تجارب معاصرة لتدبر القرآن الكريم
ثِقَل
هذا العلم
إن مِن ثقل هذا
العلم أنه لم يؤْثر عن واحد من علماء الإسلام تطبيقه على كتاب الله عز وجل كاملًا
قط، بل غاية ما وصلوا إليه إقامته في سورة أو سور، قال أبو بكر بن العربي موضحًا
اقتصار من تعرض لهذا العلم على سورة واحدة من القرآن: «ارتباط آي القرآن بعضها بعضاً
حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم لم يتعرض له إلا
عالم واحد عمل فيه سورة «البقرة»، ثم فتح الله عز وجل لنا فيه فلم نجد له حملة
ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه» (سراج
المريدين، نقلًا عن البرهان للزركشي 1/ 36)، ومثله ما في الكتاب الأهم والأعظم في
هذا الباب «نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان» لحميد الدين الفراهي؛ فعلى علو
شأنه وكثرة فوائده وانعدام نظيره في المتقدمين والمتأخرين فقد اقتصر أيضًا على عدة
سور من القرآن ولم يكمله.
ولعله -والله أعلم- أن من جلال هذا العلم ألا يحوزه أحد، وقد جُعل اقتصار بعض أهل العلم -وهم قليل- على تطبيقه في سور -قليلة أيضًا- آية على عظمة القرآن بألا يحيط به أحدٌ علمًا، فلا يُفتح هذا الباب على العباد إلا بقدر ما يبلغون به الغاية.