نظرات حول المظلومية

يعرِّف الشريف الجرجاني الظلم بأنه: "وضْع الشيء في غير موضعه، وفي الشريعة: عبارة عن التعدِّي عن الحق إلى الباطل، وهو الجور. وقيل: هو التصرف في ملك الغير ومجاوزة الحد"(1).

أما المظلومية فأرى أنها "حالة يعيشها صاحبها تصوِّر له أنه مظلوم دائمًا، وأن خصومه -مهما تغيروا- ظالمون دائمًا؛ ليبرر الأخطاء التي تقع منه، وليهرب من المسؤولية والمحاسبة، وليحاول كسْب تعاطف الآخرين".

وصاحب المظلومية قد يكون مظلومًا في مرحلة ما، لكن تكرُّر وقوع الظلم عليه -حسب ظنه- لا يعني صواب رأيه، وبراءة موقفه، وسلامة قراراته.

وفارق كبير بين أن تكون مظلومًا فتحاول دفع الظلم عن نفسك بالوسائل المشروعة، وأن تعيش حالة المظلومية التي تتولد عنها السلبية والرضا بالواقع وعدم العمل على تغييره، وانتظار الفرج والتغيير من الآخرين.

ولقد نشأت الحركات الإسلامية في وقت عصيب كانت تمر به الأمة؛ حيث تم إلغاء الخلافة الإسلامية، التي كانت مظلة للمسلمين، وعروة وثقى يتمسك بها المتمسكون.

فأصبح المسلمون وقد وجدوا أنفسهم أيتامًا على موائد اللئام، يفترسهم كل مفترس، وكانت دولهم القطرية لا تدفع عنهم عادية المعتدي؛ فكلها واقعة تحت الاستعمار، وكان حكَّامها وملوكها في غالبهم قد أصابتهم لوثة التغريب، والسماح للعلمانية بالانتشار والتغلغل في المجتمعات، وإن أظهروا بعض الاحترام للطقوس والشعائر الإسلامية.

فجاءت تلك الحركات وخرجت بمحبي الإسلام من ضيق الوطنية والقومية إلى فساحة الإسلام وأمجاده وعظمته، ومن شُبَه الاستشراق والعلمانية إلى نور اليقين وسطوع البراهين في علو كعب الإسلام، وأعادت النهضة الثقافية الدينية للأمة من جديد.

وبعد أن تهيكلت وأصبحت تنظيمات هرمية متينة إذا بها عُصبة من لا عصبة له، وقد حملت على عاتقها قضايا كبرى مثل: إعادة الخلافة العظمى، ومقاومة الاستعمار، ومحاربة الصهيونية، ومحاربة فساد الأنظمة الحاكمة.

وعندها شعرت الدول الاستعمارية والأنظمة الداخلية بخطر هذه الحركات، فعملت على محاربتها وتشويهها وعرقلة مسيرتها والتخلص من قادتها، وقد وقعت تلك الحركات في براثن تلك القوى لاحقًا، ودخلت نفق المحنة من خلال القتل والحبس والتعذيب والمطاردة.

فأطلقوا على الأحداث التي وقعت عليهم في أعوام متكررة (محنة)، وأرضوا أنفسنا بهذا الوصف، ولم يقوموا بدرسها؛ ليقفوا على أسباب التقصير والخطأ عندهم.


اقرأ أيضاً: نصرة المظلوم في الشريعة


وقد صوَّرت لنا بعض الكتب التي أرادت التأريخ لبعض تلك الفترات بعضًا من مظاهر المحنة مثل: كتاب (البوابة السوداء... التاريخ السري للمعتقل) و(سراديب الشيطان) للأستاذ أحمد رائف، و(أيام من حياتي) للحاجة زينب الغزالي... وغيرها.

المؤامرات الخارجية

ولا شك أن المؤامرات الخارجية والداخلية قائمة على أشدها، لكن لا يمكن نفي الأخطاء الذاتية، وتعليق الأخطاء على الآخرين دائمًا لا يبشِّر بخير؛ إذ إنه لا يعالج أزمة، ولا يعترف بخطأ، ويعطي انطباعًا بالطُّهْرانية للنفس مقابل الشيطنة للآخرين.

ولا شك أن المحنة ترفع أقوامًا وتضع آخرين؛ فعلى قدر بلاء المرء في الدنيا تكون رفعته فيها؛ فالإمام أحمد بن حنبل عندما صمد في وجه الفتنة رفع الله ذكره، وصار إمامًا لأهل السُّنة، وبقي العار يُطارد من آذوه ونالوا منه.

لكن أن تتحول المحنة لمعنى سلبي يعني العجز التام، والغفلة الكاملة، وتبرئة النفس من أي خطأ؛ فهذا أمر مذموم.

هذا المعنى السلبي دفع لعدم المراجعة للأفكار والمواقف والسياسات والرؤى؛ إذ كيف يراجعون ذلك كله وهم كانوا على صواب دائمًا، وغيرهم كان على خطأ دائمًا، والمحنة إن لم تكن عاملاً من عوامل التحرُّك والفاعلية فهي فتنة.

فقد خلط البعض بين الثبات على المبدأ وهو أمر محمود، وبين الثبات بمعنى ترك الفاعلية وانتظار الأقدار وإلقاء اللوم على الآخرين، فوقعوا في أحداث شبيهة تمامًا لما وقعوا فيه من قبل، بل في أحيان لم يتغيَّر بعض الأشخاص الذين عاشوا تلك الأحداث.

وهنا تكررت المحنة بحذافيرها، وبدأت تظهر أقوال على لسان القادة المؤسسين تؤسس لديمومة فكر المحنة، مثل القول المنسوب لإمام كبير: "إذا فتحت لكم السجون، وعُلِّقت لكم أعواد المشانق، فاعلموا أن دعوتكم بدأت تثمر".

وقد اشتركت في تحقيق تراثه، والذي خرج في خمسة عشر مجلدًا، فكان في نفسي شيء من هذا النص، فراجعت التراث كاملاً لعلِّي أقف عليه، ولم أظفر بشيء، وبخبرتي بأسلوبه وفكره فغالب ظني أن هذا ليس أسلوبه؛ ففقه المحنة ليس في قاموسه، وهذا الفكر والفقه لاحق عليه.

وأصبحنا لا نرى أي تاريخ لبعض متصدري القيادة في الحركات الإسلامية إلا بأنه سُجِن في عصر فلان وفلان، فهل هذا التاريخ كفيل ومؤهِّل للقيادة والتصدُّر والزعامة؟

الزعامة تحتاج لمؤهلات أخرى غير جريان المحنة على صاحبها، هذا إلى جانب أن الحركات الإسلامية مُثقلة بأوزار الماضي الذي يلاحقها في مراحل عملها وتقدمها، فيكبِّلها هذا التاريخ.


اقرأ أيضاً: مهارات مناصرة المظلوم


المحاسبة والمراجعة

وهذا يجعل مجال الحركة والمناورة محدودًا، وعليه فقد يكون في بعض الأحيان من الخير للعمل الإسلامي العام والسياسي بوجه خاص أن تسمح هذه الحركات والأحزاب القديمة لعناصر نشطة من عناصرها بالخروج منها، وإنشاء أحزاب جديدة فتية غير مكبَّلة بهذا الماضي، ويكون مجال عملها أوسع، ويبقى الحزب القديم كما هو بقياداته التاريخية وإطاراته المتنفِّذة، ولا يكون من باب الانشقاق حتى وإن ظهر للبعض بذلك، بل هو تغيير للجلد، وانعتاق من ماضٍ لم يشاركوا فيه ويلاحقهم.

ولقد شكَّلت المظلومية لدى بعض القيادات نوعًا من أنواع الهروب من المحاسبة والمراجعة والتقويم؛ فحسب رأيهم لا يجوز محاسبة الحركات الإسلامية على مواقفها وقراراتها وأبناؤها في السجون.

هذا تنصُّل من المسؤولية، وداعية للجمود، وإراحة للضمير، وقد بدا هذا الجمود واضحًا في عدم القدرة على مواكبة الأحداث المتسارعة أو التعاطي معها.

والبقاء في ثوب المظلومية يجعل أصحابها دائمًا في موضع الاتهام والريبة؛ لأنهم الضعفاء المغلوبون على أمرهم، الذين لا يملكون توجيه الأحداث أو صناعتها.

وهم بوضعهم هذا ينفضُّ الناس عنهم؛ لأن الناس مولعة دائمًا بالأقوياء، حتى وإن بدا منهم بعض البطش أو الجور.

أما الضعفاء غير القادرين عن حماية أنفسهم فضلاً عن حماية غيرهم فلن يرغب أحد في رؤيتهم مرة أخرى في موضع القيادة، ولن يُسلم لهم الناس قيادهم.

ثم إن الخروج من فكر المحنة إلى فقه الدولة بات ضرورة مُلحَّة لاستنقاذ الحركات الإسلامية من الضياع قبل استنقاذ المجتمعات والشعوب ذاتها.





_______________________

(1) التعريفات، ص186.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة