نقاش عقلاني حول زواج ذوي الاحتياجات
أثار زواج شاب
مصري مصاب بـ«متلازمة داون» من فتاة طبيعية جدلاً كبيراً حول مدى أهلية هذا الشاب
للزواج، بل مدى أحقيته فيه، وبغض النظر عن ملابسات هذا الحادث وكون الفتاة راضية
أو مجبرة، وأيضاً بغض النظر عن عدم بلوغها السن القانونية للزواج، فإن الجدل الذي
أثير والأسئلة الكثيرة التي طرحت تجعل لزاماً علينا فتح هذا الملف.
ملف زواج ذوي
الاحتياجات الذهنية من الشباب والفتيات في بلادنا العربية الذين يبلغون 2-3% من
عدد السكان (نسبة الذكور أعلى من الإناث)، وهو رقم ليس بالقليل أبداً ولا يمكن
تجاهله، خاصة أن 75 - 90% منهم تصنف إعاقتهم الذهنية بالبسيطة؛ بما يعني أنهم
يقعون بين معدلات ذكاء تتراوح ما بين 50 و70%؛ وبالتالي يستطيعون تدبر شؤونهم
الحياتية ويستطيعون العمل وكسب المال.
هؤلاء الشباب
يمرون بنفس أطوار البلوغ التي يمر بها الشباب الطبيعيون ويكون لديهم نفس
الاحتياجات الجنسية والعاطفية، ومن ثم فإن فكرة منعهم من هذه الاحتياجات الغريزية
فكرة لا إنسانية، لذلك نرى الفقهاء المسلمين تحدثوا عن زواج الأبله والمعتوه
والمجنون (وهي المصطلحات الشائعة في عصرهم للحديث عن درجات الإعاقة الذهنية) متى
يباح؟ ومتى يمنع؟ وما شروطه؟
تحديات
الزواج
لو تحدثنا
تحديداً عن الإعاقة الذهنية البسيطة من أصحاب متلازمة داون ممن يمتلكون معدل ذكاء
يتراوح بين 50 و70% أو من المصابين بالتوحد عالي الأداء، فإن علينا أن ندرك أن ثمة
تحديات حقيقية تواجه زواج هذه الفئات، فلا تمنعنا مشاعر الرحمة الإنسانية من تقدير
هذه العقبات والتحديات ووضعها في حجمها الحقيقي.
فالشاب أو
الفتاة المصابة بمتلازمة داون لا بد أن يكون لديهم دافع شخصي للزواج، إما بالقول
الصريح: إنه يرغب في الزواج، أو يبدو من سلوكياته أو اهتماماته الرغبة في الزواج،
فلا يتم إجباره على الزواج، ويبدو أن مصابي التوحد هم الأقل رغبة في الزواج أو
الأقل تعبيراً عن احتياجهم له، رغم أنهم غالباً ما يتمتعون بمعدلات ذكاء متوسطة،
وهنا تكون الحاجة ماسة لشرح الأمر وتوضيح تفاصيله بلغة واضحة وبسيطة سواء من خلال
الوالدين أو ولي الأمر أو المرشد النفسي والزواجي، فلا بد أن يفهم صاحب الإعاقة
بشكل واضح ما الزواج؟ وما المسؤوليات التي تترتب عليه؟ ما حقوق الطرف الآخر؟
ليس من المنتظر
أن يكون فهم أصحاب ذوي الاحتياجات مثل الشخص الطبيعي، ولكن على الأقل لا بد أن
يمتلك قاعدة معرفية مقبولة بالأساسيات.
في الزواج
الطبيعي، يكون الرجل قواماً على زوجته وأسرته قادراً على اتخاذ القرار وقادراً على
النفقة، بينما في زواج ذوي الإعاقة الذهنية قد يكون الرجل قادراً على النفقة، ولكن
غالباً ما تكون هناك حاجة لوجود شخص طبيعي من أوليائه كمرجعية له وإشراف يقترب أو
يبتعد من حياته بحسب الحاجة.
الفتاة أيضاً
بحاجة للمتابعة وتقديم الإرشادات والتوجيهات، وبالتالي فلا يوجد استقلال تام في
حياتهم الزوجية بدءاً من عقد الزواج الذي يباشره ولي الزوج؛ لأن من شروطه الأهلية
الكاملة والعقل مروراً بالمتابعة والإرشاد حتى تستقيم حياة ذوي الإعاقة.
يرفض الكثيرون
زواج ذوي الاحتياجات الذهنية نظراً لهذا السبب؛ أي لأنهم لا يمتلكون الأهلية
الكاملة، نظراً لمحدودية الذكاء وبطء الفهم والإدراك، ولكن إذا وضعنا وجود مرشد
أمين داخل هذا الزواج يتابعه فإنه يضيف قدراته العقلية الراشدة على القدرات
العقلية المحدودة للزوج أو الزوجة.
شبهات
وردود
قد يقول البعض:
ما قيمة هذا الزواج الذي هو بحاجة لعنصر خارجي لضبط إيقاعه؟ يرى هذا البعض أن قدر
الشخص الذي لديه إعاقة ذهنية ألا يتزوج، وأن عليه تحمل احتياجاته الغريزية لأنه
غير قادر على عيش تجربة زواج طبيعية؟
ويرى البعض أنهم
لا ينبغي لهم الإنجاب نظراً لعدم الرغبة في تفشي المرض الوراثي، وأنه حتى في حالة
إنجاب أبناء أسوياء فإنهم غير قادرين على التربية، ويرى البعض أن زواج ذوي
الاحتياجات قد ينتج حالات عنف منزلي.
وأخيراً، يرى
البعض أنه لا ينبغي زواج طرفين كلاهما مصاب بإعاقة ذهنية لكي يتحمل أحد الطرفين مسؤولية
الزواج، بينما يرى آخرون أنه لا يمكن لشخص سوي أن يتزوج بشخص من ذوي الاحتياجات
الذهنية إلا بوجود نية شريرة أو ضغط وإجبار.
بعض هذه الأسئلة
مشروعة وهي تمثل تحديات علينا أن نفكر في حل لها، وبعضها قائم على معلومات مغلوطة،
ومن ذلك أن ذوي الاحتياجات الذهنية يمارسون العنف، وقد يتم إيقاعه بالطرف الآخر
دون تحمل أي مسؤولية قانونية، فالنسبة لأصحاب متلازمة داون فهم يمارسون حياتهم
بسلام وليس لديهم أي ميول عنيفة؛ وبالتالي فلا يوجد أي قلق من سلوكيات عنيفة بعد
الزواج.
بعض مصابي
التوحد يكون لديهم نوبات غضب وغالباً ما تكون موجهة ضد ذواتهم، ولا بد من الفحص
الطبي الدقيق لكل حالة بحدة، وإذا كان ثمة عنف يحدث في علاقة أحد طرفيها من ذوي
الاحتياجات الذهنية فغالباً ما يكون هذا الطرف هو الضحية وليس الجاني، لذلك لا بد
من أخذ كافة الاحتياطات في اختيار الشخص الذي يتزوج بصاحب الإعاقة الذهنية.
مثلاً يرى د.
يوسف القرضاوي: «نسمح للمجنون بالزواج من امرأة كبيرة في السن أو لديها ظروف
جعلتها غير مرغوبة من الأزواج الأصحاء أو لا تنجب»، طبعاً في حال قبولها، وهو أمر
ممكن في حال احتياجها الغريزي غير المشبع، وهي من لا يقبل بها شخص طبيعي أو تكون
لديها إعاقة غير عقلية تجعلها في نفس مربع السيدة المسنة.
وقد تقبل بعض
الفتيات الطبيعيات الفقيرات (محدودات الذكاء دون عتبة الإعاقة ذهنية) بالزواج من
صاحب الإعاقة الذهنية خاصة إذا كانت الإعاقة طفيفة مقابل الانتقال لطبقة اجتماعية
أعلى وأكثر ثراء، المهم أن تكون متفهمة طبيعة هذا الزواج ودورها فيه، والمقابل
الذي سوف تفتقده أو الثمن الذي سوف تدفعه وعليها أن تقارن بإرادتها الحرة بين
المنافع والأضرار قبل أن تتخذ قرارها.
والعكس، قد يحدث
أيضاً فيخشى ولي الأمر من استغلال الفتاة ذات الإعاقة العقلية فيسمح بزواجها من
شيخ كبير في السن أو شاب لديه إعاقة غير عقلية، خاصة أن الكثيرات منهن يستطعن
إدارة كافة شؤون المنزل بصورة جيدة.
هذا الزواج لا بد
أن يراعي الاحتياجات العاطفية لصاحب الإعاقة الذهنية فهو بحاجة للتقبل والاهتمام،
ويستطيع هو أيضاً (خاصة أصحاب متلازمة داون) منح الحب غير المشروط ولديه عاطفة
غريزية، ويستطيع تقديم الحنان والأنس وهي أمور ليست قليلة أبداً في الحاجات
الإنسانية.
أما بالنسبة
للإنجاب فالدكتور القرضاوي مثلاً تحفظ على السماح للمجنون بالإنجاب إذا قال
الأطباء: إن ذريته سترث جنونه، بينما يفتح العلم آفاقاً واسعة في هذا الصدد، فقد
يكون الحقن المجهري أداة تستخدم لتجنب الأمراض الوراثية، حيث يتم فحص الأجنة
جينيًا قبل إرجاعها إلى رحم الأم لضمان خلوها من أي عيوب أو أمراض وراثية، فإذا
كان احتمال 50% أن يصاب الجنين بمتلازمة داون إذا كان أحد الوالدين مصاباً بها؛
فإن هذه التقنية تختبر هذه الاحتمالية قبل أن يستقر الجنين في الرحم، وطبعاً فإنه
لن يسمح بالمريض بالقيام وحده بواجبات الأمومة أو الأبوة، فوجود الجد أو الجدة
وإشرافهما التربوي ضرورة لضمان حسن تربية هؤلاء الأبناء.