هجرة العقول العربية.. أين الخلل؟!

رغم الصعوبة
البالغة في العثور على إحصاءات دقيقة حول ملف هجرة الكفاءات العربية، فإن المتوفر
منها يؤكد أن عشرين مليون مهاجر عربي يعيشون حول العالم، نسبة كبيرة منهم من
الكفاءات العلمية، وقد رصدت كلٌّ من «جامعة الدول العربية» و«منظمة اليونسكو»
و«البنك الدولي» هجرة أكثر من مائة ألف عالم ومهندس وطبيب من ثمانية بلدان عربية،
في عام ألفين وستة عشر وحده.
ورصدت دراسات
أخرى توجه هذه العقول إلى كل من: الولايات المتحدة، وكندا، والمملكة المتحدة، وفرنسا،
وألمانيا، وأن عددًا كبيرًا منهم يعملون في مهن وتخصصات إستراتيجية، منها الطب
النووي، والجراحات الدقيقة، وعلوم الليزر والفضاء.. وغيرها.
بيئة
علمية مهيأة
وفي المجتمع
الجديد، يجد العلماء العرب المهاجرون بيئة علمية ومهنية متقدمة، واحترامًا كاملًا
لحقوق الإنسان، وفرصًا عديدة للتطور الاقتصادي، غير حصولهم على جنسية البلد
الغربي، وتمتعهم بكل امتيازات المواطنين الأصليين، ولا يخضع العالم في الغرب لأي
نوع من الرقابة السياسية أو الأيديولوجية على الأبحاث، ويتمتعون بحرية النشر،
والمشاركة في المؤتمرات الدولية من دون قيود، وليس هناك شيء اسمه المحسوبية، بل
يتم التوظيف والترقية بناء على الكفاءة والإنجاز.
وتشير الإحصاءات
إلى أن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الغرب لا يعودون إلى بلدانهم، وأن 34%
من الأطباء الأكفاء في بريطانيا هم من العرب، وأن نصف حاملي الدكتوراة في أمريكا
عرب، وأن مصر وحدها خسرت في العقود الأخيرة نحو نصف مليون مواطن من حملة الماجستير
والدكتوراة فرُّوا إلى الغرب!
أسباب
الهروب
تتنوع أسباب
هروب العقول العربية استجابة لضغوط الواقع الداخلي؛ السياسية والاجتماعية
والاقتصادية، ما بين ضعف الاستثمار في البحث العلمي، وقلة الفرص المهنية والتقدير،
وضعف المستوى المالي، لكن يبقى البُعد السياسي وما يتصل به من حريات، السبب الأساس
في هجرة العقول العربية؛ تفاديًا للملاحقات الأمنية، أو تدخل السلطة لمنع أو تقييد
الأبحاث والدراسات، أو جعلها رهينة مواءماتها السياسية، وهو ما أطلق عليه البعض «اغتراب
الفلسفة والسياسة»؛ حيث لا تُعطَى الكفاءات الوطنية فرص المشاركة في صنع القرار،
أو المساهمة في السياسات العامة، ويُستبدل الولاء السياسي بالكفاءة؛ وهو ما اضطر
هذه العقول إلى الهروب، أو الانطواء في الداخل بعيدًا عن الضغط أو الاحتواء.
خسارة
كبيرة
تمثل هجرة
العقول العربية إلى الخارج خسارة كبيرة لأمتنا العربية، على المستويات الاقتصادية
والاجتماعية والتنموية، وتعبِّر الظاهرة عن أزمة حضارية كبرى تعانيها مجتمعاتنا،
التي تحولت –بشكل تلقائي- إلى مجتمعات مستوردة لأفكار الغرب وثقافاته؛ لسد الفجوة
التي سببتها هجرة كفاءاتها الوطنية.
ومما يؤسف له
أنه مع مرور الوقت فقدت الأمة أبرز عقولها، فقلّت فرص الابتكار والتطور، وحُرمت
الأجيال المقبلة من القدوات العلمية والثقافية، بعد عملية ما يُعرف بـ«تصفية
الأدمغة»، وتبعيتها للدول التي هاجروا إليها.
وإذا كان ثمة
نتائج إيجابية من تلك الهجرة، مثل اكتساب الخبرات، والتعامل مع المجتمع الدولي،
والاستفادة المالية، فإن ذلك كله عائد على الدول المستقبِلة وعلى الكفاءة ذاتها،
وليس على البلد الأصلي.
وتظل الاستفادة
المادية وتحويلات العلماء المهاجرين –وقدّرها البعض بنحو 30 مليار دولار سنويًّا-
زهيدة للغاية قياسًا إلى الخسائر التي نتكبدها جراء هجرة هذه الكفاءات، التي
قُدّرت بنحو 250 مليار دولار؛ ما دعا جامعة الدول العربية إلى إصدار عدة تقارير
حذّرت فيها من أن عالمنا العربي يعاني من فقر علمي وخسارة اقتصادية كبيرة بسبب
هجرة الكفاءات العلمية، داعيةً إلى استعادة هذه العقول، خصوصًا في ظل التفوق
التكنولوجي «الإسرائيلي».
كيف
نواجه الظاهرة؟
من أجل مواجهة
ظاهرة هروب الكفاءات العربية إلى الخارج، تُطرح عدة سُبل إستراتيجية تتمثل في:
- تحسين بيئة
العمل في الأقطار العربية.
- تعزيز البحث
العلمي والابتكار.
- تطوير الأنظمة
التعليمية.
- توفير فرص
تمويل ودعم للمشاريع الناشئة.
- إقامة شبكات
دعم للكفاءات.
- تطوير البنية
التحتية الرقمية والتقنية.
لكن تظل هذه
السبل بلا قيمة ما لم تتوفر لها بيئة سياسية وعلمية وتطبيقية آمنة ترعى تنفيذها،
بعيدًا عن النفوذ والهيمنة، بحيث توفر هذه البيئة فرص عمل برواتب مجزية، وتتبنى
زيادة الاستثمار في البحث العلمي، وإنشاء مراكز بحثية تتيح للعلماء تطوير
دراساتهم، وتشجع على التعاون بين الجامعات والمؤسسات الصناعية.
لقد ثبت -من دون
شك- أن الاستقرار السياسي والأمني يسهمان في الاستقرار المهني والشخصي، وأن مكافحة
الفساد وتعزيز الشفافية يعجِّلان بالنهوض والتنمية.