هذا هو سر الجيل القرآني الفريد

سيد قطب

06 أغسطس 2025

81

هناك ظاهرة تاريخية ينبغي أن يقف أمامها أصحاب الدعوة الإسلامية في كل أرض وفي كل زمان، وأن يقفوا أمامها طويلًا؛ ذلك أنها ذات أثر حاسم في منهج الدعوة واتجاهها.

لقد أخرجت هذه الدعوة جيلًا من الناس – جيل الصحابة رضوان الله عليهم – جيلًا مميزًا في تاريخ الإسلام كله وفي تاريخ البشرية جميعها، ثم لم تعد تُخرج هذا الطراز مرة أخرى. نعم، وُجِد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ، ولكن لم يحدث قط أن تجمع مثل ذلك العدد الضخم في مكان واحد، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة. هذه ظاهرة واضحة وواقعة، ذات مدلول ينبغي الوقوف أمامه طويلًا، لعلنا نهتدي إلى سره.

نحو تخريج جيل قرآني.. الأدوات والوسائل |  Mugtama
نحو تخريج جيل قرآني.. الأدوات والوسائل | Mugtama
«كان خلقه القرآن»، هكذا لخصت أم المؤمنين السيدة عا...
mugtama.com
×

إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا، وحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهديه العملي، وسيرته الكريمة، كلها بين أيدينا كذلك، كما كانت بين أيدي ذلك الجيل الأول، الذي لم يتكرر في التاريخ. ولم يَغِب إلا شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهل هذا هو السر؟

لو كان وجود شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتميًا لقيام هذه الدعوة وإيتائها ثمارها، ما جعلها الله دعوة للناس كافة، وما جعلها آخر رسالة، وما وَكَلَ إليها أمر الناس في هذه الأرض إلى آخر الزمان. ولكن الله -سبحانه- تكفل بحفظ الذكر، وعلم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويمكن أن تؤتي ثمارها، فاختاره إلى جواره بعد ثلاثة وعشرين عامًا من الرسالة، وأبقى هذا الدين من بعده إلى آخر الزمان. وإذن فإن غياب شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يفسر تلك الظاهرة ولا يعللها.

فلنبحث إذن عن سبب آخر، ولننظُر في النبع الذي كان يستقي منه هذا الجيل الأول، فلعل شيئًا قد تغير فيه. ولننظُر في المنهج الذي تخرجوا عليه، فلعل شيئًا قد تغير فيه كذلك.

كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن، القرآن وحده. فما كان حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهديه إلا أثرًا من آثار ذلك النبع، فعندما سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: «كان خُلُقه القرآن».

كان القرآن وحده إذًا هو النبع الذي يستقون منه، ويتكيفون به، ويتخرجون عليه. ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة، ولا ثقافة، ولا علم، ولا مؤلفات، ولا دراسات.

كلّا! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه، أو على امتداده.

وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم.

وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حُكمها كذلك، وحضارات أخرى قاصية ودانية: حضارة الهند وحضارة الصين... إلخ. وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تُحيطان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة. فلم يكن إذًا عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يُقصر ذلك الجيل على كتاب الله وحده، في فترة تَكَوُّنه، وإنما كان ذلك عن "تصميم" مرسوم، ونهج مقصود.

ويدل على هذا القصد غضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد رأى في يد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- صحيفة من التوراة، وقوله: «إنه والله لو كان موسى حيًا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني».

إذن فقد كان هناك قصد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل – في فترة التكون الأولى – على كتاب الله وحده، لتخلص نفوسهم له وحده، ويستقيم عودهم على منهجه وحده. ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يستقي من نبع آخر.

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد صنع جيل خالص القلب، خالص العقل، خالص التصور، خالص الشعور، خالص التكوين من أي مؤثر آخر غير المنهج الإلهي، الذي يتضمنه القرآن الكريم.

ذلك الجيل استقى إذًا من ذلك النبع وحده، فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد. ثم ما الذي حدث؟ اختلطت الينابيع! صَبَّتْ في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم، وأساطير الفرس وتصوراتهم، وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات، واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم، وعلم الكلام، كما اختلط بالفقه والأصول أيضًا. وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدًا.

وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملًا أساسيًا من عوامل ذلك الاختلاف البَيِّن بين الأجيال كلها وذلك الجيل المميز الفريد.

هناك عامل أساسي آخر غير اختلاف طبيعة النبع؛ ذلك هو اختلاف منهج التلقي عما كان عليه في ذلك الجيل الفريد.

من مزايا تفسير «في ظلال القرآن» |  Mugtama
من مزايا تفسير «في ظلال القرآن» | Mugtama
في 29 أغسطس الجاري تحل ذكرى استشهاد سيد قطب رحمه ا...
mugtama.com
×

إنهم – في الجيل الأول – لم يكونوا يقرؤون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع، ولا بقصد التذوق والمتاع.

لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولًا يملأ به جعبته، إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته.

 يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه، كما يتلقى الجندي في الميدان «الأمر اليومي» ليعمل به فور تلقيه!

ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة؛ لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه، فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

هذا الشعور – شعور التلقي للتنفيذ – كان يفتح لهم من القرآن آفاقًا من المتاع وآفاقًا من المعرفة، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاطلاع.

 وكان ييسر لهم العمل، ويخفف عنهم ثقل التكاليف، ويخلط القرآن بذواتهم، ويحوله في نفوسهم وفي حياتهم إلى منهج واقعي، وإلى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا في بطون الصحائف، إنما تتحول إلى آثار وأحداث، تُحَوِّل خط سير الحياة.

 

كتاب "معالم في الطريق" - دار الشروق


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة