شبهات حول فلسطين (13)
هل جعل العثمانيون القدس مدينة هامشية؟

لعل هذه الشبهة
لا تقتصر على الكتّاب والأكاديميين الصهاينة، وإنما تتجاوزها إلى بعض الكتّاب
القوميين العرب الذين يعتبرون أن الطريق إلى نصرة القومية العربية لا بد أن يمر من
الهجوم على الدولة العثمانية باعتبارها الدولة الأخيرة التي كانت تحكم العالم
الإسلامي قبل عصر الاستعمار والدولة القُطْرية الذي تعيشه أمتنا اليوم.
حكم العثمانيين للقدس.. 4 قرون من الاستقرار
وتتلخص هذه
الشبهة التي طرحها عدد لا بأس به من الكتّاب والباحثين العرب في أن الدولة
العثمانية كانت وبالاً على القدس، وأدى وجود العثمانيين في القدس لمدة 400 سنة إلى
سقوط فلسطين تحت الاحتلال وضياع مدينة القدس اليوم.
والواقع أن
الجملة الأخيرة السابقة تعتبر بحد ذاتها رداً على هذه الشبهة، فمن قواعد التاريخ
المعروفة أن ثبات أي حكم في منطقة دون ثورات أو مقاومة فترة طويلة تدل على موافقة
الشعب على ذلك الحكم، وهذا بالتالي ينطبق حرفياً على الدولة العثمانية التي حكمت
مدينة القدس 400 سنة كاملة، منذ دخول السلطان سليم الأول عام 1517م حتى دخول
الجنرال البريطاني إدموند ألنبي المدينة عام 1917م، وهذا يذكّرنا بالمدة التي حكم
فيها المسلمون القدس باستمرارٍ مدة 476 عاماً، منذ فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه
حتى الاحتلال الفرنجي.
وطوال تلك
القرون الأربعة من الحكم العثماني لم تسجل المصادر التاريخية أي ثورات أو ما يمكن
تسميته مقاومة للحكم العثماني في القدس، حتى كانت ثورة نقيب الأشراف عام 1703م
التي استمرت عامين و5 أشهر فقط، وحتى هذه الثورة القصيرة لم تكن موجهة ضد الحكم
العثماني نفسه، بل ضد ظلم حاكم سنجق القدس محمد باشا كردي بيرم تحديداً، فكانت
تشبه الاضطرابات الشعبية التي حدثت في الأقاليم المختلفة في العالم الإسلامي ضد
ظلم بعض الولاة في العصر الأموي أو العصر العباسي دون أن تنتقص من فكرة الانتماء
للخلافة الأموية أو الخلافة العباسية نفسها.
القدس في ظل الحكم العثماني.. نهضة وحماية
هذا من الناحية
السياسية، أما من الناحية العلمية والاجتماعية، فإن القدس بقيت في العهد العثماني
تحافظ على رونقها العلمي والاجتماعي وتردد العلماء والمشايخ والمتصوفة عليها،
ويشهد لذلك عدد من المعالم والزوايا والمساجد المهمة التي تعود للعهد العثماني في
القدس مثل رباط ومكتب بايرام جاويش والزاوية الأفغانية والزاوية النقشبندية ومسجد
المولوية والمسجد القيمري والمدرسة الرشيدية وغيرها، كما أن بناء سور القدس الذي
نعرفه اليوم في العهد العثماني يعد أبرز معلم يرد على شبهة التهميش التي يدعيها من
يدعيها في حق العثمانيين، ويكفي أن نعلم أن إحدى أشهر تكايا فلسطين اليوم ما زالت
تعمل في القدس منذ إنشائها في العصر العثماني وهي تكية «خاصكي سلطان».
كما أن من
المعروف بين علماء التاريخ أن العثمانيين تنبهوا في فترة مبكرة إلى ما كان يحاك ضد
أرض فلسطين في أوروبا من أطماع، فكان لا بد من ربط سنجق القدس مباشرة بالأستانة،
وهو ما حدث في فترة حرجة من عمر الدولة العثمانية وبينما كانت تعاني من الضعف
العام، وهذا الضعف العام لم يمنع سلاطين العثمانيين من إعمار المدينة المقدسة
ومعالمها كما جرى في ترميم قبة الصخرة والجامع القبلي في عهد السلطان محمود الثاني،
وفي عصر السلطان عبدالمجيد في القرن التاسع عشر، وتجديد بلاط البلدة القديمة في
عهد السلطان عبدالعزيز، والسلطان عبدالحميد الثاني، وإنشاء سكة حديد القدس-يافا
وبرج الساعة في عصر السلطان عبدالحميد الثاني، وغير ذلك من عمليات الإعمار
والإصلاح.
ويكفي حقيقة
للرد على هذه الادعاءات أن ننقل وصف الرحالة العثماني أوليا جلبي للقدس عندما
زارها عام 1670م، بعد زهاء 150 عاماً من دخول العثمانيين للمدينة المقدسة، حيث
يقول: «فيها ألفان وخمسة وأربعون دكاناً وستة خانات عظيمة، وخمسة أسواق، وثلاثة
وأربعون ألف كرم، ورأيت وسط هذه الكروم ألفاً وخمسمائة منظراً، ويسكن القدس ستة
وأربعون ألف نسمة أكثرهم عرب مسلمون، وفيها كنيسة للأرمن، وثلاث كنائس للروم،
وكنيسان لليهود ومئتان وأربعون محراباً للصلاة، وسبع دور للحديث، وعشرون سبيلاً
للماء، وتكايا لسبعين طريقة منها الكيلانية والبدوية والسعدية والرفاعية والمولوية».
فهل يُعقَل بعد
هذا الوصف البديع أن مدينة بهذه الصفة في تلك الفترة كانت مهمشة كما يدعي هؤلاء؟!