معبد الإلحاد يهتز (14)
هل ينفعل الله؟!
تقوم بعض
الشبهات الحديثة للملحدين على تصور متهافت يُسقِط المقياس النفسي البشري المحدود
على الخطاب الإلهي المطلق، فيقرؤون آيات القرآن الكريم كأنها ردود فعل غاضبة أو
مشادات قبلية وليس باعتبارها أحكامًا ربانية وسننًا كونيةً وقوانين أخلاقية تحكم
مصير الإنسان والتاريخ.
نص الشبهة:
«أيعقل أن يكون مبدع هذا الكون الفسيح بمجراته السابحة وثقوبه السوداء هو نفسه من
يرد شتيمة عم محمد بكلمات غاضبة: تبت يدا أبي لهب وتب؟!
كيف يلتقي سمو
الصانع مع دناءة الخصومة؟ ثم أي انسجام بين مَن نقش الدِّقة على كل ذرة في الوجود
وبين قوله في كتاب يفترض أنه رسالة خالدة للبشر أجمعين: «إن شانئك هو الأبتر»؟ يرد
فيها على من اتهم محمداً أنه محروم من إنجاب الذكور ليرد عليه الله أن عدوك هو
المحروم؟!
وتأمل مشهد
التحدي في الآية: فليدع ناديه ليتبعها: سندعو الزبانية، كأنما هي مبارزة قبلية:
اجمع رجالك وسأستقدم ملائكتي ولنرَ لمن تكون الغلبة؟!
كيف يتقبل العقل
أن ينزل الخالق إلى هذا المستوى الانفعالي، إن جمع اتساع هذا الكون المدهش المعجون
بدقة مبهرة مع هذه الردود التي تشبه ردود فعل البشر حين تستبد بهم العصبية، أمر
تعجزني قدرتي على استيعابه».
ونقول: هذا
اللون من الشبهات يقوم -في جوهره- على خلطٍ بين ثلاثة مستويات مختلفة للخطاب؛ مستوى
الإنسان، ومستوى الرسالة، ومستوى الخالق سبحانه وتعالى، ثم يُقاس الإلهيّ على
البشريّ انفعاليًا وسلُوكًا ونَفسيّةً، فيقع الاضطراب الذهني الذي ولّد هذه
الشبهة.
أولًا: هل في الآيات الكريمات انفعال بشري أم حكم إلهي؟
الشبهة تصور أن
قول الله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المسد: 1)، هو ردّ غضب، كما يرد البشر على الإهانة إذا غضبوا.
والواقع هذه
قراءة نفسية بشرية، وليست قراءة لغوية ولا عقدية.
في اللغة
العربية، «التَّبّ» لا يعني الانفعال، بل يعني الهلاك والقطع والبتر من الرحمة في
سياق الحكم والنتيجة، لا في سياق الغضب.
فالآية الكريمة
ليست «شتيمة»، وإنما تقرير لمصير رجل مات على الكفر بعد أن بلغ من العناد والعداء
والإفساد حدًّا جعله رمزًا تاريخيًا لمقاومة الحق.
والفارق هائل
بين: إنسان يغضب فيسبّ، وإلهٍ حكيم عليم يحكم فيُخبر، فهل عندما نقول: «المجرم
مدان بالإعدام» نكون قد انتقمنا أم أصدرنا حكمًا؟
الله عزَّ وجل
هنا لم «ينفعل»، بل أصدر حكمًا وبيان مآل.
كما أن أبا لهب
لم يكن «عمًّا عاديًا»، بل كان رأسًا من رؤوس الفتنة والاضطهاد، ومارس التعذيب،
وأشرف على محاصرة المسلمين، ومات مصابًا بمرض نبذه فيه أهله.
فهل ذكر مصيره
في كتاب خالِد ضعفٌ أم توثيقٌ لموضعٍ عقديّ خطير: أنَّ القرابة لا تنفع في الحق؟
وهذا درس إنساني
عميق جدا وليس «رد شتيمة».
ثانيًا: ما معنى «إن شانئك هو الأبتر»؟ وهل هي إهانة؟
الشبهة تقول:
كيف يرد الله عزَّ وجل على من قال لمحمد: إنه أبتر بأن قال: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (الكوثر: 3)؟
لكن لو تأملنا
الآية الكريمة بعمق سندرك أن فيها عنصرين:
الأول: الرد
الحقيقي ليس لغويًّا بل واقعيًّا عبر التاريخ؛ فمن هو الأبتر اليوم الذي انقطع
ذكره؟ ومن الذي لا يعرف الناس اسمه؟ ومن الذي طواه النسيان؟ هل هو النبي صلى الله
عليه وسلم الذي يذكر اسمه 5 مرات يومياً في الأذان في مشارق الأرض ومغاربها؟ أم
الذين شتموه وانقرض ذكرهم؟
والعجيب هنا أن
الواقع نفسه صار تفسيرًا للآية الكريمة، فلو كان هذا كلام بشر لما تحقق بعد 1400
سنة، لكنه تحقق بهذا الاتساع، وبهذه الدقة، وبهذا الامتداد الزمني العجيب.
الثاني:
«الأبتر» هنا ليس إهانة جسدية، بل رمزية حضارية؛ أي منقطع الأثر، مقطوع الذكر،
منعدم القيمة المستقبلية، وهذا ليس سبًّا، وإنما توصيف لقاعدة: أن من يحارب الحق
يندثر، ولو طال به الوقت.
فأين هؤلاء
الزنادقة اليوم؟ أين أعداء الإسلام الأوائل؟ بل أين أعظم قوى البطش التي كانت تملأ
الأرض رعبًا؟ هلكوا جميعًا، بينما ازداد ذكر من حاربوه.
فمن الذي كان
الأبتر فعلًا؟
ثالثًا:
هل آية: فَلْيَدْعُ نَادِيَه
{17} سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) (العلق) تشبه مبارزة قبلية؟
القول بأنها
«مبارزة قبلية» ناتج عن إسقاط نموذج بشري بدائي على نص يتحدث عن عالم غيبي أخروي.
النادي في
اللغة: هم أهل المكان، وأعوانه، وقوته الاجتماعية في الدنيا.
الزبانية: قوى
العقاب الأخروي التي لا تخضع للمادة ولا للبشر.
والمعنى المنطقي
للآية الكريمة: «اجمع كل ما تستطيع من قوة بشرية -مهما بلغت- ولن تنفعك أمام قوة
الله رب العالمين».
هل في هذا مشهد
قبَلي؟! أم مشهد تفكيك لوهم القوة البشرية؟
هي ليست «هيا
بنا نتبارز»، بل «انظر كم أنت ضعيف مهما بلغت من العناد والكفر والتآمر والكيد
والمكر»، وهذا يتسق تمامًا مع منطق الكون نفسه؛ مهما بلغ الإنسان المعاصر من
تكنولوجيا وقوة، فهو عاجز عن منع زلزال أو نجم ينهار أو فيروس لا يرى حجمه.
القرآن الكريم
لا يتكلم بلغة بشر، ولكنه جاء من رب العالمين ليكشف كبرياء القوة الكاذبة.
رابعًا: هل سمو الخالق يتنافى مع اهتمامه بأفعال بشر؟
هذا السؤال نفسه
ينبني على تصور خاطئ لله، فنحن نتخيل أن العظيم لا «ينزل» لمستوى البشر، لكن هذا
تصور بشري لا إلهي، والعظمة الإلهية ليست في البُعد والانعزال بل في القدرة على
الإحاطة بكل شيء مهما صغُر، العظمة ليست أن يهملك، بل أن يراك، ويحاسبك، ويقيم
العدل في شأنك، مجرة كنت أو ذرة.
والسؤال: من
الأعظم؟ إله لا يهتم بك لأنك صغير؟ أم إله يزن فعلك مهما صغُر؟
الذي خلق
الإلكترون، والبروتون، والحمض النووي، لا يعجزه أن يتكلم عن إنسان واحد، بل هذا
دليل القدرة المطلقة وليس محدوديتها.
خامسًا: هل الكون العظيم يتناقض مع آيات تتكلم عن أشخاص؟
العلم الحديث
كشف لنا أن الكون الهائل مترابط ترابطًا مذهلًا مع الأشياء الدقيقة جدً، فالخيط
الوراثي في جسد الإنسان يتحكم فيه قانون كوني، وسلوك النجوم يخضع لقوانين رياضية
تشبه قوانين الذرة، فلماذا يستغرب العقل أن يكون مَن خلق المجرة.. يهتم بسلوك
إنسان يُعادي رسول رب العالمين؟
إن قيمة الرسالة
لا تقاس بحجم المخاطب، إنما بأثر المعنى.
سادسًا: مغالطة قياس الخالق على النفس البشرية:
كل الشبهة مبنية
على قاعدة واحدة خاطئة: «لو فعل الإنسان هذا لعد تصرفاً طفولياً»، لكن هذه مغالطة
معروفة: «قياس المطلق على المحدود» أو «قياس الخالق على المخلوق».
الله عزَّ وجل
لا يغضب كغضبنا، ولا يرد كردنا، ولا يحكم كأحكامنا، فأفعاله سبحانه وتعالى ليست
انعكاسًا نفسياً، بل قضائية كونية مطلقة، فكم من طبيب يقطع قدم مريض لإنقاذه! هل
نقول: هذا تصرف عنيف ومرعب؟ أم نقول: الطبيب حريص على مصلحة المريض وهو يعلم
الصواب؟
فكيف إذا كان
الطبيب -ولله المثل الأعلى- هو خالق الجسد والقوانين معًا؟
سابعاً: لو كان القرآن الكريم من بشر هل يكتب ضد عمه؟
يتغافل الملحدون
المجرمون عن نقطة مهمة: لو كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤلف القرآن
الكريم بنفسه، فهل من العقل أن يكتب ضد عمه، ويكتب عن نفسه، ويُعرِّض نفسه لهجوم
أشد؟ هل يضع نفسه وسط ساحة الاتهام؟ هل يوثق إساءة الآخرين له؟
إنّ الكتب
البشرية عادة تُلمّع صاحبها وتغدق عليه كل الخصال وتغض الطرف عن المواقف المزعجة
وتمتدح جذوره وعائلته وأقاربه، أما القرآن الكريم فكشف كل شيء، وواجه كل شيء،
ووثّق كل شيء، وهذا أحد أقوى أدلة أنه ليس نفسًا بشرية منفعلة تكتب، بل خطاب أعلى
منها أوحى إليها.
ثامناً: كيف نرى المسألة من زاوية أعمق؟
1- القرآن
الكريم «سجل حقائق»:
يقرر مآلات
ويفضح الزيف والشرك ويضع قواعد أخلاقية وتاريخية، ويوثق معركة فاصلة بين الحق
والباطل للإنسانية كلها وعندما يذكر الأشخاص فلا يذكرهم لذاتهم إنما لما يمثلونه
من نموذج:
- أبو لهب =
نموذج الكبر والعداء والعناد.
- شانئ النبي
صلى الله عليه وسلم = رمز الحقد وسوء الأدب مع رسول رب العالمين.
- النادي = رمز
القوة الاجتماعية والعصبية الجاهلية والاستكبار.
- الزبانية =
رمز العدالة الإلهية.
فهل أصبح النص
«شخصياً» أم «نموذجياً ذا دلالة كونية»؟ إن العجيب حقًا ليس أن يتكلم الله عن أبي
لهب أو نادي الكفر والإلحاد، العجيب أن يخلق سبحانه وتعالى كونًا لا نهائيًا ويجعل
الإنسان محور اختبار أخلاقي فيه.
سبحان الله
وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.