«وثيقة المدينة».. بين التعايش والتطبيع

محمد خاطر

11 يونيو 2025

84

وثيقة المدينة تُعد وثيقة تأسيسية للتعايش في الحضارة الإسلامية، فقد كُتبت في بداية العهد المدني، واحتوت على مقومات بناء المجتمع المتماسك على الرغم من وجود الاختلاف في المعتقدات وفي الانتماء.

وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم بعد وصوله للمدينة المنورة على وضع أسس التعايش السلمي بين مكونات مجتمع المدينة التي أصبحت فيما بعد عاصمة الدولة الإسلامية، ومن الخطوات التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم لإشاعة الأخوة والمحبة والسلام في مجتمع المدينة بناء المسجد الجامع، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وكتابة الصحيفة (وثيقة المدينة) التي تؤسس للعيش المشترك بين المكونات السكانية للمدينة في ذلك الوقت، وتحدد طبيعة العلاقة بين المسلمين واليهود.

وأهمية «وثيقة المدينة» تكمن في الحاجة الماسة إلى بيان وتقرير أهمية التعايش بين مكونات المجتمعات المعاصرة، التي تشهد صراعات بين أطياف ومكونات المجتمع الواحد، بل وبين المنتمين لنفس الدين، والسبب في ذلك عدم القدرة على إدارة الاختلاف والتنوع، وعدم الإيمان بضرورة التعايش السلمي مع الآخرين لتحقيق الأمن والاستقرار والحفاظ على مصالح الجميع.

ومن العجيب أن العديد من المجتمعات والدول الإسلامية المعاصرة عجزت عن تحقيق التعايش والاستقرار بين مكوناتها، وذلك على الرغم من وجود نماذج رائعة للتسامح والتعايش في ظل الدولة الإسلامية التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وفي ظل الحضارة الإسلامية التي شملت الجميع مسلمين وغير مسلمين بالرعاية والحماية وضمنت حقوق الأقليات وحافظت على الحريات.

«وثيقة المدينة».. والتطبيع

«وثيقة المدينة» حظيت باهتمام الكثير من المؤرخين والباحثين الذين تعرضوا لتاريخية الوثيقة ورواياتها المتعددة، ومنهم من أفردها بمؤلفات خاصة، ومنهم من ضمنها كتبه وأبحاثه خلال تناوله لقضايا حقوق الإنسان.

والكتابات المعاصرة حول الوثيقة لا تحمل في طياتها أي دعوة للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين أو التعايش مع الظلم في أماكن أخرى من العالم، بل على العكس من ذلك تمامًا، فنصوص الوثيقة -وفي أكثر من موضع- تستثني من شروطها كل من «ظلم أو أثم»، فقد نص البند رقم (37) من الوثيقة على: «وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم».

ونص البند رقم (47) والأخير من الوثيقة على ما يلي: «وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم».

حدود التسامح مع غير المسلمين

لا يمكن تحميل «وثيقة المدينة» أو الكتابة عنها المسؤولية عن التطبيع الذي يدافع عنه البعض، ويهرول نحوه آخرون، فالوثيقة ونصوص القرآن والسُّنة تدعو المسلمين إلى البر والقسط مع غير المسلمين، وضوابط تعامل المسلم مع غير المسلمين بينها القرآن الكريم، يقول تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8).

وحدود التسامح مع غير المسلمين تنتهي عند الاعتداء على المسلمين وحرماتهم أو الاعتداء على مقدساتهم، أو الاستهزاء بشيء من شعائرهم الإسلامية.

التسامح مع اليهود وضياع فلسطين!

يعزو البعض زيادة عدد اليهود في فلسطين وسيطرتهم عليها واحتلال أجزاء واسعة منها في القرن الماضي إلى تسامح الدولة العثمانية مع اليهود، وتغلغلهم في مفاصل الدولة العثمانية وتبوئهم مناصب عليا فيها، وترد الكاتبة إحسان الفقيه على ذلك بقولها: «الدولة العثمانية في عهد السلطان عبدالحميد كانت تفرّق بين اليهودية كمِلّة، وبين الصهيونية كحركة سياسية تستغل الدين في تحقيق أطماعها، وتجيّش يهود العالم للهجرة إلى ما أسموه أرض الميعاد».

وهذا التسامح أو التساهل مع اليهود وما نتج عنه من احتلال لفلسطين، لا يمكن لعاقل أن يحمل النصوص الإسلامية التي تدعو إلى التسامح وإلى الإحسان لغير المسلمين المسؤولية عنه، وإنما هي مسؤولية الحكام الذين غُرر بهم أو خدعوا ببعض الشخصيات وأعطوها من الثقة والولاء ما لا تستحقه، وكانت النتيجة ما تجنيه الأمة بسبب ضعفهم وقلة تدبيرهم، وإهمالهم للحيطة والحذر وهما من الأمور التي دعت لها الشريعة وحثت عليها.


كلمات دلالية

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة