وقفات مع نداء التعارف الإنساني في كتاب الله
العلاقات محور مهم في الوجود الإنساني، فالإنسان مدني بطبعه، كما يقول علماء الاجتماع، وهذه العلاقات بين بني الإنسان تتميز وتتمايز، وتتنوع وتتعدد، وتضيق وتتسع، وقد تحكمها القيم أو تسيرها المصالح، تقوم على البر والتقوى حيناً، وتتأسس على البغي والعدوان أحياناً أخرى.
ولقد جاءت رسالة الإسلام السامية رحمة للعالمين وهداية للناس أجمعين، ولأبعادها الشاملة، اهتمت بجانب المعاملات وأولته عناية كبيرة، فهو جزء لا يجزأ من منظومة الإسلام العبادية والتشريعية والمقاصدية.
وقد وجَّه الله تعالى المسلم ليصحح علاقته مع الآخرين، ويبنيها على أسس من التواصل البنّاء والتعاون المفيد، ويحقق عبرها مهمته العبادية وريادته الاستخلافية ومهمته الإصلاحية في محطة وجوده الدنيوي لينعم بالفوز الأخروي.
وحين تحدثت نظريات عن العلاقات الإنسانية فجعلتها عدوانية تصادمية، وصنفتها استعبادية إقصائية، فإن الإسلام جعل أساس العلاقة بين المسلم وباقي البشر يقوم على التعارف ومد جسور التعاون، ويرتكز على الاحترام والإحسان.
ووجه القرآن نداء جليلاً للناس أجمعين؛ هو نداء التعارف الإنساني، ولعلنا نغوص في دلالات وأبعاد هذا النداء الجليل من خلال وقفات مع هذه الآية الكريمة التي يقول الله تعالى فيها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
الآية تبدأ بخطاب عام للناس جميعاً بهذا النداء البهي الندي: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، وهو نداء يثير الانتباه وتستسيغه الأسماع فتنجذب له القلوب وتتلقاه روحاً وريحاناً، رقة وعذوبة.
تذكر الآية بالأصل الواحد للجماعة البشرية في هذه الجملة التأكيدية: (إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى)، فكل من على ظهر هذه البسيطة من معاشر الإنس ينتمون لأب واحد وأم واحدة هما آدم وحواء، وخالقهم رب واحد تفرد بالعظمة والكبرياء، وحقيق بهذا الانتماء العميق والأصل الواحد أن يجعل الإنسان نظيراً لأخيه الإنسان، فكل البشر لهم نفس الانتماء، وكلهم من طين وماء، ولا معنى للترفع والازدراء الذي يصدر من بعض بني البشر على إخوانهم الذين يشاركونهم السكن على هذه الأرض.
(وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ)، وكما أقر القرآن بالأصل الواحد للبشر، فإنه يقر بتنوع أعراقهم وأجناسهم، فالموكب البشري نما وتفرع وغدا أعراقاً وألواناً، شعوباً وقبائل، وتلكم آيات تترا تدل على عظمة الخالق وبديع صنعه وجلال قدرته، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (الروم: 22).
وهذا التنوع يشكل فسيفساء رائعة على هذه الأرض لو أن أهلها فقهوا ووعوا، وساروا على المنهج القويم وسلكوا الصراط المستقيم، لكن للأسف بعضاً من الناس ممن تلقوا لوثة الكبر الإبليسية، زعموا أن عرقهم أسمى فتفاخروا وتكاثروا بانتمائهم، بل طغوا وبغوا، وأجرموا وأبادوا، لأنهم ظنوا أنهم سادة هذه الأرض وباقي البشر عبيداً لهم ولمشاريعهم التدميرية، ومنبع هذا الشعور الاستعلائي نزعة الكبر مع الجهل والخلل في الفهم الذي يقوم على ادعاء يزعم أن عرقاً أو جنساً هو الأرقى والأنقى، وقد نسف القرآن هذا الادعاء بالتذكير بأن البشر جميعهم لهم انتماء واحد، وأن تعدد وتنوع أعراقهم وشعوبهم يجب أن يكون في إطار التنوع الفسيفسائي الجميل الذي هو مدعاة للتعاون والتكامل، والتعايش والإحسان.
وبعد التأكيد والتذكير على حقيقة الأصل الواحد وواقع التنوع البشري إلى شعوب وقبائل، جاءت هذه الكلمة القرآنية المعبرة والعابرة إلى القلوب السليمة والعقول السوية لتعلل هذا التنوع، وتذكر بالهدف الذي على البشرية أن تسعى لتحقيقه: (لِتَعَارَفُوا)، لتكون هذه الكلمة واسطة العقد ولب الآية، التعارف الذي هو فعل تبادلي في تطبيقاته ومساراته، يقوم على حسن الظن وصدق التعامل، ومعرفة عميقة بين كل الأطراف، فيتعرف كل طرف على حقيقة الطرف الآخر، يسمع منه ولا يسمع عنه، ينصفه ولا يجير عليه بأحكام وأوصاف هو منها براء.
وهو تعارف يؤدي بالمسلم إلى الاعتراف بكينونة وكرامة الآخرين والإقرار بحقوقهم وإنسانيتهم، كيف لا ودستوره العظيم يقول له: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء: 70).
ولكي يكسر القرآن النزعة الاستعلائية ويكبح جماح العصبية العرقية ويصحح المفاهيم، تأتي هذه الجملة بعد كلمة التعارف مباشرة (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، جملة إسمية مؤكدة تفيد الثبات والاستقرار وتضع المعيار الحقيقي للتفاوت بين البشر ألا وهو التقوى، وتبين أنه كلما كان الإنسان أكثر اتباعاً للمنهج الله تعالى، وأشد اتباعاً لتعاليمه؛ ارتفعت منزلته عند الله تعالى، والميدان في هذا فسيح، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وهنا يضع القرآن الموازين القسط التي بها يرتفع ويسمو الناس، ولتكون التقوى مقياساً للقرب من الله، وعلو الدرجات، والحصول على المراتب العلياء في الجنات.
وتختتم هذه الآية الجليلة بهذه الجملة التأكيدية: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، فالله عليم بعباده خبير بأحوالهم وهو أدرى بمراتبهم الحقيقية، وقادر على تصنيفهم حسب أعمالهم، وسيضع كل واحد في الموضع الذي يستحقه بكل عدل وإنصاف.
جاءت هذه الآية في سورة «الحجرات» تلك السورة التي بدأت بنداء للمؤمنين فيه دعوة لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم الذي جسد في سيرته معاني العدل والإنصاف في تعامله مع الناس، قال تعالى في مفتتح هذه السورة الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الحجرات: 1).
وهي سورة اهتمت بالجوانب الأخلاقية والمرتكزات الإيمانية، فجاءت هذه الآية لتكون جزءاً مهماً في إكمال وتناغم تلك المعاني الأخلاقية الرفيعة والمعاملات الإنسانية الراقية.