وقولوا للناس حسناً

د. أشرف عيد

06 مارس 2025

141

أمر الله تعالى المؤمنين بطيب الكلام وحفظ اللسان في كثير من الآيات؛ ومنها: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) (الإسراء: 53)، والكلام الطيب من صفات المؤمنين وحسن أخلاقهم؛ فيقول سبحانه: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) (الحج: 24)، وقوله سبحانه: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر: 10)، وأوصى الله تعالى بني إسرائيل بحسن الكلام في قوله: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: 83)، وهي تشمل جميع الناس والأمم من بعدهم، وليست خاصة ببنى إسرائيل.

وقد ورد في السُّنة النبوية الدعوة إلى الكلام الطيب والابتعاد عن الفحش؛ فيقول صلى الله عليه وسلم: «الكلمة الطيبة صدقة»(1)، وقوله: «اتقوا النار ولو بشق تمرة؛ فإن لم تجد فبكلمة طيبة»(2)، ونفي عن المؤمن فحش اللسان بقوله: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء»(3).


الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة


حفظ اللسان في رمضان

الصوم يقتضي أن يصون الإنسان لسانه وجوارحه عن كل ما حرم الله كما صام عن الطعام والشراب والمفطرات؛ فيجب عليه أن يحفظ لسانه عما حرم الله دائمًا في رمضان وفي غيره من قول الزور وسائر المعاصي من الغيبة والنميمة، وأن يكون حذره منها في رمضان أشد؛ فالصيام جُنة وسترة من النار، وحصن لمن صانه وحفظه كما ورد في الحديث: «والصوم جُنّة، وإِذا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحدِكُمْ، فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صائمٌ..»(4)؛ وهذا الحديث يدعو المسلم إلى ضبط انفعالاته والسيطرة عليها حفاظًا على صومه مما يفسده.

حفظ اللسان وضبط النفس من الأساليب التربوية في علاج السلوك الاندفاعي عند كثير من الناس؛ فيكون الفرد نفسه هو المسؤول عن ضبط سلوكه والتحكم في انفعالاته وعدم الاستجابة لرغبات النفس في مبادلة الإساءة اللفظية بمثلها حتى يكون يوم صومه متميزاً عن يوم فطره.

وحالة الإنسان الانفعالية في علم النفس الحديث تتأثر بحالة جسده من حيث وضعيته وتعبيرات وجهه وغير ذلك؛ فالانفعال النفسي يؤدي إلى تغيير في تعبيرات الوجه ووضعية الجسم، ثم إن إحساس الإنسان بهذه التغييرات يزيد من الانفعال النفسي، وهكذا يقوم الانفعال بتضخيم ذاته حتى يصبح شعوراً قوياً محركاً للإنسان؛ فإن اتخاذ أوضاع متناقضة أثناء الغضب يرسل إيحاءاته إلى النفس، فتعاكس الغيظ والثورة التي فيها، ويهدأ الغضب.

ويجب على الإنسان بعد أن يتحكم في انفعالاته أن يبتعد عن كل ما يفسد صومه من الكذب والزور والبهتان والغيبة والنميمة؛ فيقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدعْ قَوْلَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ؛ فلَيْسَ للَّهِ حَاجةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرَابه»(5).

ولا يصلح أن يقدم إلى الله هذا الصوم المجروح بقول الزور والعمل به، فالله لا يقبل عملاً اختلط بكبائر الذنوب؛ لذا يجب أن يحفظ المسلم لسانه احترامًا لصومه، فيقدم لله صومًا سليمًا بعيدًا عما حرم الله، فهو سبحانه أهل لأن يتقرب إليه بصوم لا يشوبه ما يفسده اللسان عن الكذب والزور، والخوض في أعراض الناس.


حفظ اللسان



من الوسائل المعينة على حفظ اللسان في رمضان

- تدريب النفس على الصمت؛ فيلتزم السكوت إن لم يستطع قول الخير؛ وذلك أن الإنسان في الأصل مأمور بقول الخير دومًا كما جاء في الحديث: «من كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيصْمُتْ»(6).

وإنما نبه وشدد على حفظ اللسان؛ لأن آفاته كثيرة، فإن المرء إذا أراد أن يتكلم، فليتفكر قبل كلامه؛ فإن علم أنه لا يترتب عليه مفسدة ولا يجر إلى محرم ولا مكروه، فليتكلم، وإن كان مباحًا فالسلامة في السكوت؛ لئلا يجر المباح إلى محرم أو مكروه.

- الإعراض عن اللغو والثرثرة، والابتعاد عن الجدال فيما لا طائل من ورائه، وعدم التدخل في شؤون الغير؛ فكثرة الكلام طريق للزلل والخوض في الغيبة والنميمة؛ فقد مدح سبحانه المؤمنين بأنهم: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون: 3)، (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) (القصص: 55)، (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) (الفرقان: 72)، وفي الحديث: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»(7).

ومن محاسن إسلام المسلم وتمام إيمانه ابتعاده عما لا يخصه من الأقوال والأفعال، وتدخله في شؤون غيره فيما لا ينفعه، وما لا يحتاج إليه من فضول الكلام والأفعال والأحوال.

- إشغال النفس بذكر الله تعالى؛ فالإنسان لا بد أن يشغل نفسه بما يعود عليه بالنفع في دنياه وآخرته حتى لا يتحسر على ضياع وقته بعد ذلك.

من أثر حسن الكلام في الصحة النفسية

الكلمة الطيبة مفتاح لحل كثير من المشكلات والأزمات البشرية، والثناء الجميل، والنصح الهادئ الذي تتقبله النفس راضية بأسلوب تتجاوب معه العواطف والأحاسيس، بعيدًا عن الغضب والانفعال والصخب والنقاش الحاد، وذلك في العلاقات الاجتماعية المختلفة.

- الكلمة الطيبة داخل الأسرة ضرورية للغاية؛ فضغوط الحياة اليومية تجعل الوالدين أكثر قلقًا وتوترًا؛ فيسود الانفعال والغضب؛ فلا يرى كل منهما إلا الجوانب السلبية وأوجه القصور في رعاية الأبناء وتربيتهم، فتنشأ المشكلات الأسرية مما يؤثر سلبًا على الصحة النفسية للأبناء، وعلاج ذلك يتطلب تغافل كل منهما عن عيوب الآخر، والتحلي بالهدوء والاستماع الجيد، وضبط النفس عن الانفعال والغضب الشديد.

وتبادل الكلام الطيب اللطيف بين الزوجين يؤدي إلى الشعور بالراحة النفسية؛ ما ينعكس أثره في التعامل التربوي مع الأولاد، ولنا في النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته القدوة الحسنة، فكان يلاطفهن بحسن الكلام، ويصبر على ما يجده منهن، وكانت أم المؤمنين خديجة تثني على النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول له عندما نزل عليه الوحي وارتعد: «أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، تقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»(8).

- الكلام الطيب في التعامل مع الناس لا يضيع عند الله، وإن ذهب أثره من ذاكرة الناس، فكم من كلمة طيبة ظل أثرها ماثلًا في الذاكرة رغم تقادم السنين! وكم من أستاذ لا يمحى أثره الطيب من ذاكرة طلابه، وإن طواه الثرى! وكم من كلمة طيبة كان لها أثرها في الإصلاح بين المتخاصمين!

إن الكلمة الطيبة بما تحويه من دعم نفسي كبير أفضل من الصدقة المادية التي يتبعها إيلام نفسي للفقير كما في قوله سبحانه: (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) (البقرة: 263).

وشهر رمضان موسم الطاعة وترويض النفس على فضائل الأخلاق حتى تكون سلوكًا وطبعًا له سائر حياته.

 

 

 

 

 

____________________

(1) فتح الباري، كتاب الأدب، باب، طيب الكلام، ج10، ص448، رقم (6023).

(2) المرجع السابق، كتاب الأدب، باب طيب الكلام،ج10، ص463، رقم (5677).

(3) صحيح الترمذي، كتاب البر، باب ما جاء في اللعنة، ج2، ص368، رقم (1977).

(4) فتح الباري، كتاب الصوم، باب، هل يقول إني صائم إذا شتم، ج4، ص118، رقم (1904).

(5) المرجع السابق، كتاب الصوم، باب، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم، ج4، ص116، رقم 1904).

(6) المرجع السابق، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ج10ص461، رقم (5673).

(7) صحيح سنن الترمذي، تخريج الألباني، ج2، ص531، رقم (2317)، حديث صحيح.

(8) شرح النووي على صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي، ج2، ص 348، رقم (160).


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة