وُلِدَ الهدى
صلى اللهم وسلم
عليك سيدي يا رسول الله ماخط اسمَك قلمٌ، وما تحدثَ عنك متحدثٌ، فلقد أرسلك الله
للعالمين نورًا، وجعلك للكائنات ضياءً، فاستنار الكون كله بنورك، قال عنك ربك
سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً {45} وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ
بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) (الأحزاب).
ولما تولى أهل
الكتاب عن اتباع هذا النور المبين، وذلك لرمد أصاب بصائرهم قبل بصرهم، ذكرهم الله
تعالى بذلك النور، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ
رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ {15}
يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم
مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ) (المائدة).
ميلاد النبي الأكرم
وفي شهر ربيع الأول من عام الفيل ولد خير إنسان دبَّ على هذه البسيطة، وأفضل وأشرف خلق الله
تعالى على الإطلاق، ولد محمد صلى الله عليه وسلم في وقت كانت الدنيا أحوج ما تكون
إليه وإلى نوره ورسالته، فقد عمَّ الدنيا ظلام دامس، ظلام ديني، وظلام خلقي، وظلام
اجتماعي، بل وظلام سياسي واقتصادي وغيره، فتطلعت البشرية للنور، وأراد الله تعالى
أن يُخْرِجَ العباد من الظلمات إلى نوره المبين.
وهنا أذن الله
تعالى بميلاد محمد صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ صفي الرحمن المباركفوري: ولد سيد
المرسلين صلى الله عليه وسلم في شعب بني هاشم بمكة في صبيحة يوم الإثنين التاسع من
شهر ربيع الأول، لأول عام من حادثة الفيل، ولأربعين سنة خلت من ملك كسرى أنو
شروان، ويوافق ذلك العشرين أو الثاني والعشرين من أبريل 571م، حسبما حققه العالم
الكبير محمد سليمان المنصور فوري، والمحقق الفلكي محمود باشا.
وروى ابن سعد أن
أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لما ولدته خرج من فرجي نور أضاءت له قصور
الشام، وروى أحمد عن العرباض بن سارية ما يقارب ذلك(1).
ومن هنا نظم
شوقي قصيدته الجميلة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بدأها بقوله:
وُلِـدَ
الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ وَفَـمُ
الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ
الـروحُ
وَالـمَـلَأُ الـمَلائِكُ حَولَهُ لِـلـديـنِ وَالـدُنـيـا بِهِ بُشَراءُ
وَالـعَـرشُ
يَزهو وَالحَظيرَةُ تَزدَهي وَالـمُـنـتَـهى وَالسِدرَةُ العَصماءُ
وَحَـديـقَـةُ
الفُرقانِ ضاحِكَةُ الرُبا بِـالـتُـرجُـمـانِ شَـذِيَّةٌ غَنّاءُ
وَالـوَحيُ
يَقطُرُ سَلسَلاً مِن سَلسَلٍ وَالـلَـوحُ
وَالـقَـلَـمُ البَديعُ رُواءُ
نُـظِمَت أَسامي
الرُسلِ فَهيَ صَحيفَةٌ فـي الـلَـوحِ وَاِسمُ مُحَمَّدٍ طُغَراءُ
اِسـمُ
الـجَـلالَةِ في بَديعِ حُروفِهِ أَلِـفٌ هُـنـالِـكَ وَاِسمُ طَهَ
الباءُ
يـا خَـيـرَ مَن
جاءَ الوُجودَ تَحِيَّةً مِـن
مُرسَلينَ إِلى الهُدى بِكَ جاؤوا(2)
كيف نحتفل بمولده؟
يختلف الناس كل
عام وتنشب شبه معركة كلامية ما بين مؤيد للاحتفال بالمولد النبوي، ومعارض،
فالمعارضون يصفون المؤيدين بالمبتدعة في الدين، والمؤيدون يتهمون المعارضين بعدم
حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحق أن الأمر
لو عقل الناس لوجدوه أهون من ذلك، فلو نظرنا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسُنته ما وجدنا دليلًا قاطعًا على أنه صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة والتابعين
من بعده، قد احتفلوا بميلاده صلى الله عليه وسلم، بل ولما أراد عمر بن الخطاب رضي
الله عنه أن يؤرخ للمسلمين اختار الهجرة ولم يختر الميلاد، وكذلك فميلاد النبي صلى
الله عليه وسلم قد اختلف في تحديده، أما الثابت يقينًا أن وفاته كانت يوم 12 ربيع
الأول، فهل المحتفلون يحتفلون بميلاده أم بموته صلى الله عليه وسلم؟!
ومن زاوية أخرى،
نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن صيام يوم الإثنين قال: «ذَاكَ يَوْمٌ
وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ (أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ)»(3)،
فلقد كان صلى الله عليه وسلم يتذكر يوم مولده، ففي حين أنه لم يحتفل ظاهرًا بمولده
ولم يأمر بذلك، إلا أنه كان يصوم يوم الإثنين شكرًا لله على ذلك.
ولو قلنا: إن
عبدًا يفرح بيوم مولد سيده، ويسر لذلك فهل هناك ما يمنع هذا؟ بالطبع لا، ولا يوجد
نهي عن هذا، بل هو من الفرح بمولد من أقسم الله بحياته صلى الله عليه وسلم، فقد
قال الله تعالى في ذلك: (لَعَمْرُكَ
إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر: 72).
الجمع بين الرأيين
ويمكن تحرير
الخطاب والجمع بين الرأيين، بأنه لا حرج شرعًا ولا عقلًا أن يفرح المسلم بمولد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يتذكر ذلك، بل وأن يحتفل به احتفالاً يليق بمقامه صلى الله عليه وسلم، بأن يكثر من قراءة وتدريس سُنته وسيرته ويلقي الدروس
في المساجد في تلك المناسبة، ولا مانع أن يوسع على نفسه وعياله ابتهاجًا بهذه
المناسبة شريطة ألا يجعلها عادة دائمة فتتحول للبدعة.
وعليه أن يحذر
أن يجعل من الاحتفال عبادة قطعية، وأن يحذر من البدع التي تحدث في هذه المناسبة من
الاجتماع المذموم واللهو واللعب أو الرقص في أماكن الاحتفال بحجة المولد، أو
اختلاط الرجال بالنساء، أو شرب المسكرات، أو المغالاة في مدح رسول الله صلى الله
عليه وسلم، أو جعلها سُنة، فهذا كله ما أنزل الله به من سلطان.
قال الإمام
السيوطي: عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن
ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع في مولده من
الآيات، ثم يمد لهم سماطاً يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك، هو من البدع
الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم
وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف(4).
__________________
(1) الرحيق
المختوم، ص45.
(2) موقع
الديوان، مصر، الشاعر أحمد شوقي، ولد الهدى فالكائنات ضياء، https://www.aldiwan.net/.
(3) رواه مسلم (1162).
(4) كتاب حسن
المقاصد في عمل الموالد للسيوطي، ص41.