ثمَّ كذَّبوك يا محمد ﷺ (9)

يا طفل غزة المجهود!

يا طفل غزة المجهود، تقفز مشاعرنا خلف الحدود، وتستدبرها أحاسيسنا من فوق السدود، ولكن هل على المشاعر تقتات، وعلى الأحاسيس تحيا أيها المجهود.

إن القلوب التي تسكن حنايانا تحدِّق من دواخلنا في أمر أطفال غزة ونسائها، ونشعر بصراخها مفزوعة: أتعطفون عليهم بالأقوال، وتنأون عنهم بالأفعال؟ ألستم مسلمين؟! يا من تدَّعون الانتساب إلى أمة نبي الرحمة، تأملوا بعين المعتبر تفاصيل هذا المشهد.

يتراءى لنا الرجل يسعى سعي البؤساء بخطى متباطئة في ساعة من ساعات المساء، وفي ليلة من ليالي الإيثار والعطاء، يريد أن يتعجل لكنه لا يستطيع، يسعى متثاقلًا بسبب سعي الجوع بين أحشائه خفيفًا، تتدافع أسباب القوة والضعف على وجهه فتغشاه سحابة من الشحوب والامتقاع، يريد الضعف أن يستخلص بوجهه مستعينًا بألم الجوع الذي أحنى أعلاه على أسفله، وتريد القوة أن تستأثر به مستعينة برجولته، بيد أنه صَبَرَ وأمعن في الصبر حتى اضطربت أمعاؤه، وسلك الجوع بأحشائه كل مسلك، ولو سألناه: إلى أين يا مسكين تمضي؟ فسيجيب: إلى الملجأ والملاذ، ولو عُدنا له: ومن ملجؤك وملاذك؟ لعاد لنا: النبي صلى الله عليه وسلم.

أجل كان الفقراء يؤمونه صلى الله عليه وسلم ملتمسين طعامهم حين يعضّهم الجوع أو يشقيهم الحرمان، ويهدفونه إذا أَلمَّـت بهم أوجاع الخطوب، وآلام النوازل، ولمَ لا وهو الذي يرفق بهم، ويأبه لهم، ويؤثرهم على نفسه، ويبذل في ذلك أقصى همّـه؟!

وها هو الرجل ينتهي إليه صلى الله عليه وسلم، يثبّت صوته المهزوز الذي كاد من ضعفه أن يستحيل إلى هواء ويلقي السلام، يجلس يلتقط أنفاسه، وبينما تعلقت به عيون الصحابة الكرام متسائلة، نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعينين مجهدتين وجَهَر بحاله: إنّي مجهود(1).

فأسرع صلى الله عليه وسلم يسأل له عن طعام عند بعض نسائه، وجاء الجواب في عبارة قصيرة توحدت كلماتها، عبارة تجذب إليها القلوب أكثر مما تجذب إليها العيون، جاء الجواب: «والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء!»، واستأنف صلى الله عليه وسلم يسأل عند بقية نسائه عن معونة يسيرة تقيم أود الرجل، يسأل الواحدة تلو الأخرى، فيجيء ذات الجواب: «والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء»!

إن ردهن ليحمل إلى الفؤاد شيئًا ومعنى، شيئًا يملؤه بالشجن والروعة، ومعنى أكبر من الزهد ذاته، ولم لا؟ أما صرَّحت عائشة رضي الله عنها بذلك في قولها: «ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله»(2).

سمع صلى الله عليه وسلم رد نسائه ولكنه ظلَّ حافلًا بالرجل، مكترثًا بأمره كان يود استضافته ولكنه ما وجد إلى ذلك سبيلًا، وما كان صلى الله عليه وسلم ليدعه وشأنه، وأبى ألا يطعمه ويرده سعيدًا موفورًا، فما رد صلى الله عليه وسلم سائلًا قط صفر اليدين، وآية ذلك سؤاله لأصحابه: «من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟»، اضطرته الضرورة الملجئة لقول ذلك، سألهم ليقينه بأنها صحبة تحفظ حق الله في ماله وعباده، ليس كصُحُبِنا(3) اليوم التي أضاعت في غزة حق الله في ماله وعباده، سألهم ليقينه من وجود رجل خليق بهذا العمل الذي كان سينهض به لولا شدة ضيق الحال في جميع أبياته تلكم الليلة، ليحاصرنا السؤال: ألا يوجد بين أكثر من المليار مسلم من هم خُلَقَاء بالنهوض بإطعام مجهودي غزة من أطفال ونساء؟

كان الرجل قد جلس واجمًا مُكبًا على وجهه نحو الأرض عندما سمع رد نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن وجومه لم يتصل، فقد ارتفع صوت أبي طلحة نشيطًا يجيب: «أنا يا رسول الله»، فقد كان أبو طلحة يحب الإنفاق مما يحب، ودفعته خلل الجود والكرم والرجولة المتأصلين في نفسه إلى أن يمضي بضيفه محبور النفس سعيد الضمير إلى أقصى آماد حبور النفس وسعادة الضمير، غير متريث في سعيه لئلا يؤخر على ضيفه تلك اللحظة التي يؤذن له فيها بإصابة طعامه، ولا يُطيل الترقُب الشاق على أمعائه، هكذا كان يتصرف الصحابة، وكذلك يجب أن يكون المسلمون في كل زمان ومكان.

وما أن تخطَّى أبو طلحة عتبة داره حتى قال لزوجته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دنا منها مستنبئًا عما لديها من طعام: هل عندك شيء؟ فردَّت أسيفة: لا إلا قوت صبياني!

كان أبو طلحة موفور المال، ولو سألنا عنه من عرفوه لأجاب أنس رضي الله عنه: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء(4) وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران: 92)، جاء أبو طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى أنزل عليك (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)، وإن أحبّ مالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى أرجو برَّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «بخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسَّمها في أقاربه وبني عمّه(5).

بيد أن حياة أبي طلحة لم تكن رخيَّة في كل الأوقات، وإنما كانت تلمُّ بها أوقات العسر والضيق، ولو أعاد ضيفه أدراجه، وأغلق من دونه بابه ما نظرت إليه عين بلائمة، ولا انحنى عليه لسان بتثريب، وقد تضع الظروف الإنسان في مأزق، وعند محاولته الخروج منه تتبدَّى سمات شخصيته، تلكم السمات التي لم تدع أبا طلحة يعيد ضيفه كاسف البال، بائس النفس، وإنما قال لزوجته قولًا يُفجع نفوس البخلاء، ويصرح بأن الجود من أخصّ خصائص المسلم الصادق الذي يسعى جهده ولا يخشى فوات رزقه، تاركًا أمر غده لله، قال لها: فعلليهم بشيء، وإذا أرادوا العشاء فنوميهم(6)(7)، ثم راح يبين لها مهمتها: فإذا دخل ضيفنا فأضيئي السراج وأريه أنّا نأكل فإذا أهوى ليأكل قومي إلى السراج حتى تُطفئيه.

وبالرغم من أنه لا يوجد شيء أدفع لنفوس الأمهات إلى الوجع من حاجة أطفالها للطعام، فلم تُراجع المرأة زوجها حديثًا، أو تردّ عليه رأيًا، وامتثلت بصفاء نفس، وهيأت الطعام الموجود للضيف بشكل لا يعرف التردد أو الاضطراب، وأغلب الظن أن أبا طلحة لم يترك الضيف حتى استوفت معدته حظَّها من الامتلاء، ليجول الخاطر في نفوس كل المسؤولين والأغنياء: لماذا لم يجد مجهود غزة، ما وجده مجهود أبي طلحة؟ المجهود هو المجهود ولكن أين أبو طلحة؟

قد يُقال: قد تضاعفت القرون حتى نمت على 14 قرنًا من عمر الزمان، واعترى شؤون الحياة الكثير من التغيير، وانتاب أحوال المسلمين الوفير من التبديل! فخبرونا بالله عليكم: هل تغير الإسلام، وتبدلت تعاليمه؟! وهل شؤون الحياة التي تغيّرت تمنع الكرم من تجديد عهده بالنفوس المسلمة، فيجد مجهود غزة ما وجده مجهود أبي طلحة؟! وهل أحوال المسلمين التي تبدلت تمنع من وجود أسرة أبي طلحة في البيت المسلم؟ وتصدّ الغني الممتلئ عن إطعام الفقير الطاوي(8)؟ أم أن هناك من نخشاه وما نخشى عليه؟! وهل تربو خشية أحد في قلوبنا عن خشية الله، وتعلو على شيء أكثر من تعاليم نبينا؟! ولئن كانت الذريعة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بين ظهرانيهم فإنها ذريعة باطلة لأنه معنا بهديه وتعاليمه اللذين يصرخان في وجوهنا: أطعموا، أطعموا المجهودين من أطفال ونساء غزة.

وهلموا إلى أبي طلحة فقد كدنا ننسى أمره؛ امتد النور من السماء إلى الأرض وهبط الأمين جبريل محملًا بمعجزة نبويّة وهديّة، فأمّا المعجزة فقد أخبر عز وجل رسوله بأمر أبي طلحة وأهله، وأمّا الهدية فقد خلَّد عز وجل أمر أبي طلحة وأهله في كتابه الخالد، فلم يشرق الصبح من غد على هام الدنيا حتى أشرقت معه المعجزة الشريفة.

فما أن غدا أبو طلحة في الصباح إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد انطوت نفسه على أمر ضيفه، حتى لاقاه صلى الله عليه وسلم متهللًا، زافًا إليه البشرى: «قد عَجِـبَ(9) الله من صنيعكما بضيفكما الليلة»(10)، وأنزل: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر: 9)(11)، وأعلمه ما أعلمه به الله عز وجل، ولا ريب فقد امتلأت الدنيا من حول أبي طلحة سعادة ونورًا وترنمًا، وفاضت بهم نفسه على من حوله ما بقيت له في الحياة أنفاس.

فأغلب الظن أنه راح يتقلب في شؤون الحياة ما شاء الله له أن يتقلب، ولا تُفارق الآية ذاكرته، يرددها في فؤاده ترديدًا متصلًا، ومهما قلنا في أسرة أبي طلحة، فهل نذكرها بما هي خليقة به؟ لسنا على قدر ذلك، فأسرة قال الله فيها، أيقول فيه البشر؟ قد قلنا ولو اكتفينا لظلمناهم، وإنما نوفيهم لو قلنا حسبهم عظمة وخلودًا قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).

ونغمض عيوننا لنبصر المعجزة النبوية التي عمَّ شذاها بلا شك أرجاء المدينة، ولكن اليهود أغمضوا عيونهم، وأصمّوا آذانهم، ثم كذَّبوك يا محمد عليك صلوات الله وتسليماته، وعندما ظهروا عاثوا في الأرض فسادًا وسوادًا، وأوجدوا ملايين المجهودين، حتى دوَّت أصوات أوجاع غزة: كُلَنا مجهودون، كُلَنا مجهودون، بل إننا من الجهد نموت. 





 

_______________________

(1) أصابني الجهد، وهو المشقة وسوء العيش والجوع.

(2) حديث صحيح: أخرجه مسلم (2970)، والترمذي (2357).

(3) جمع صُحْبة.

(4) حديقة نخل.

(5) حديث صحيح: أخرجه مسلم (998)، وأحمد (3/ 141)، والطيالسي (2080).

(6) وردت هذه العبارة في رواية أخرى للحديث.

(7) قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: هذا محمول على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين للأكل، وإنما تطلبه أنفسهم على عادة الصبيان من جوع يضرهم، فإنهم لو كانوا على حاجة بحيث يضرهم ترك الأكل لكان إطعامهم واجبًا ويجب تقديمه على الضيافة، وقد أثنى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل وامرأته فدل على أنهما لم يتركا واجبًا بل أحسنا وأجملا، وآثرا على أنفسهما برضاهما معه حاجتهما فمدحهما الله تعالى وأنزل فيهما قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة. 

(8) صفة تدل على شخص أجهده الجوع أو الصيام.

(9) صفة من صفات الله نؤمن بها من غير تمثيل، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تأويل، والسؤال عنها بدعة والإيمان بها واجب.

(10) حديث صحيح: أخرجه البخاري (3798)، ومسلم (2054)، وابن حبان (5286). 

(11) شدة الحاجة.

الرابط المختصر :

كلمات دلالية

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة