يقظة القلب.. رحلة العودة إلى الصفاء

خلق الله الخلق لعبادته، فمن استجاب لله تعالى وأطاعه؛ فهو حي يقظ، ومن غفل قلبه وسار وراء هواه وخالف أوامر مولاه؛ فقلبه عما قريب إلى موات، إن لم يجد من يسعفه بيقظة بعد غفلة، وصفاء بعد كدر، وإقبال بعد إدبار، فكانت اليقظة خير معين له على العودة إلى الله تعالى، ولكي تتحقق اليقظة للقلوب الغافلة لا بد من أمور عدة، منها ما يلي:

أولاً: التفكر:

يحتاج من ابتعد قلبه عن الله تعالى إلى التفكر في عظمة الخالق، وإطالة النظر في خلقه تعالى، والتوسع في النظر إلى وظائف أجهزة الإنسان، والبحث في عجائب الجبال والبحار والأرض والسماوات، حتى يتيقظ قلبه ويرتبط بالله عز وجل، وتتمالكه الرغبة في العودة إليه، والشعور بالإقبال عليه، فيطيع ربه وينفذ تعاليمه، ويتفكر في كل طاعة يفعلها سواء كانت الطاعة قلبية أم فعلية أم قولية، فإن فعل ذلك كانت عبادته حقيقية، وإن لم يفكر في الطاعة كانت عبادته عادة.

ذلك أن الغافل يقول: سبحان الله عادة، والمتيقظ لا يزال فكره في عجائب المخلوقات أو في عظمة الخالق، فيحركه الفكر في ذلك، فيقول: سبحان الله.

ولو أن إنسانًا تفكر في رُمَّانَةٍ، فنظر في تصفيف حَبِّها، وحفظه بالأغشية لئلا يتضاءل، وإقامة الماء على عظم العجم-النوى، وجعل الغشاء عليه يحفظه، وتصوير الفرخ في بطن البيضة، والآدمي في حشا الأُمِّ، إلى غير ذلك من المخلوقات: أزعجه هذا الفكر إلى تعظيم الخالق، فقال: سبحان الله! وكان هذا ‌التسبيح ‌ثمرة ‌الفكر، فهذا تسبيح المتيقظين، وما تزال أفكارهم تجول، فتقع عباداتهم بالتسبيحات محققةً.

وكذلك يتفكرون في قبائح ذنوب قد تقدمت، فيوجب ذلك الفكر حركة الباطن، وقلق القلب، وندم النفس، فيثمر ذلك أن يقول قائلهم: أستغفر الله، فهذا هو التسبيح والاستغفار، فأما الغافلون، فيقولون ذلك عادة، وشتان ما بين الفريقين(1).

فالتفكر يجعل المسلم يُقبل على الله بكُليّته، ويصفو قلبه من كل ران علق به ويُنقى فؤاده من كل ذنب سيطر عليه، حتى أصبح التفكر من أفضل أعمال القلب وأنفعها لَهُ حَتَّى قيل: تفكر سَاعَة خير من عبَادَة سنة، فالفكر هُوَ الَّذِي ينْقل من موت الغفلة إلى ‌حَيَاة ‌الْيَقَظَة، وَمن المكاره إلى المحاب، وَمن الرَّغْبَة والحرص إلى الزّهْد والقناعة، وَمن سجن الدُّنْيَا إلى فضاء الآخرة، وَمن ضيق الْجَهْل إلى سَعَة الْعلم ورحبه، وَمن مرض الشَّهْوَة والإخلاد إلى هَذِه الدَّار إلى شِفَاء الإنابة إلى الله والتجافي عَن دَار الْغرُور، وَمن مُصِيبَة الْعَمى والصمم والبكم إلى نعْمَة الْبَصَر والسمع والفهم عَن الله وَالْعقل عَنهُ، وَمن أمراض الشُّبُهَات إلى برد الْيَقِين وثلج الصُّدُور(2).

ويكفي في فوائد التفكر قول الله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران: 191).

ثانياً: ارتباط تصرفات المؤمن بالآخرة:

يبحث من انشغل قلبه بدنياه عن سبيل يربطه بمولاه، فخير طريق يسلكه هو ارتباط تصرفاته بالآخرة، لا يُقبل على عمل إلا ونظرته فيه للثواب من الله والابتعاد عن العقاب، ولعل في القول الشائع: همك ما أهمك، ما يوضح طبيعة تصرفات الأفراد، وحين ارتبطت تصرفات الصالحين بالآخرة صفت قلوبهم وتيقظت أفئدتهم.

فمنهم من إذا كان في ظلمة تذكر القيامة وما فيها من شدائد، فعن القاسم بن محمد قال: كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي: بأي شيء فُضّل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة؟ إن كان يصلي إنا نصلي، ولئن يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنا لنغزو، وإن كان يحج إنا لنحج.

قال: فكنا في بعض مسيرتنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت إذ طفئ السراج فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يستصبح فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين ‌فقد ‌السراج فصار إلى الظلمة ذكر القيامة(3).

ومنهم من كان إذا رأى نعمة الماء تذكر عقوبة المنع منها عند الاحتياج إليها يوم القيامة، فعن سلام، قال: أتى الحسن بكوز من ماء ليفطر عليه، فلما أدناه إلى فيه بكى، وقال: ذكرت ‌أمنية ‌أهل ‌النار في قولهم: (أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) (الأعراف: 50)(4).

ثالثاً: العلم بأن ارتكاب الآثام موارد الهلكة:

يرتعد القلب الغافل حين يعرف مصير البعيدين عن الله تعالى، ويشتد قلقه حينما يرى هلاك أحدهم، فيعاود الرجوع إلى الله تعالى ويتيقظ قلبه وتصفو سريرته، قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) (الكهف: 57)، فمن الصالحين من تذوق حلاوة الطاعة ثم فقدها فبحث عن آثامه فعلم أنها سبب حرمانه، قال الثوري: حُرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب ‌أذنبته(5).

فمن رحمة الله تعالى بنا أن بيّن لنا خطر الآثام التي تورد المهالك، حتى يتبصر المسلم بموقعه من ربه حين غفل عنه، ليعالج موت قلبه باليقظة، فرب شخص أطلق بصره، فحرم اعتبار بصيرته، أو لسانه، فحرم ‌صفاء ‌قلبه، أو آثر شبهة في مطعمة، فأظلم سره، وحرم قيام الليل، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك، وهذا أمر يعرفه أهل محاسبة النفوس(6).

فعلى المسلم أن يعي مراقبة الله تعالى له، ففي غفلة العبد تنزل عقوبة المعبود، فلا تأمن مكر الله تعالى حتى تسكن جنته، فيا مَن معاصيه أكثر من أن تُحصى، يا من رضِى أن يُطرد ويُقصى، يا دائم الزلل وكم يُنهى ويُوصى، يا جهولاً بقدرنا ومثلنا لا يُعصي، إن كان قد أصابك داء داود، فنح نوح نوح، تحيا بحياة يحيى(7).

رابعاً: الحذر من الإعجاب بالطاعة:

ينبغي لمن أراد يقظة قلبه وجلاء صدره أن يتذكر كثرة نعم الله تعالى عليه وقلة طاعته له، وليعلم أن الله تعالى هو صاحب المَنّ على عباده ولا يمكن لأحد أن يمن الله بشيء، فالإعجاب بالطاعة محبط للعمل مفسد للقلب، ولهذا قال مورق العجلي: خير من العجب بالطاعة ألا تأتي بطاعة(8).

ولهذا سارع الإمام الشافعي إلى معالجة خطر إعجاب الشخص بعمله فقال: إذا خفت على عملك العُجب فاذكر رضا مَن تطلب، وفي أي ‌نعيم ‌ترغب، ومن أي عقاب ترهب، فمن فكر في ذلك صغر عنده عمله(9).

لأن إبليس يعدد للمسلم أعماله ويزين له فعاله، حتى يعجب بها، فإذا أراد صاحب القلب اليقظ أن يقطع الطريق على إبليس فليتهم نفسه بالتقصير وليستقل أعماله وإن كثرت أمام الخلق، لأنه لا يدري أقبلها الله أم لا؟ وهل يختم الله تعالى له بعمل صالح أم غير ذلك؟ لأنه ليس شيء أقطع لظهر إبليس من قول ابن آدم: ليت شعري بماذا يُختم لي؟ عندها ييأس إبليس ويقول: متى يُعجَب هذا بعمله(10)؟





______________________

(1) صيد الخاطر: ابن قيم الجوزية، ص 409.

(2) مفتاح دار السعادة: ابن القيم الجوزية (1/ 183).

(3) صفة الصفوة: ابن الجوزي (2/ 330).

(4) حلية الأولياء: الأصبهاني (6/ 189).

(5) مختصر منهاج القاصدين: ابن قدامة، ص 67.

(6) صيد الخاطر: ابن قيم الجوزية، ص 66.

(7) الياقوتة: ابن الجوزي، ص 43.

(8) البيان والتبيين: الجاحظ (3/ 81).

(9) سير أعلام النبلاء: الذهبي (8/ 251).

(10) مع العارفين: د. سعيد رمضان، ص 111.

الرابط المختصر :

كلمات دلالية

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة