15 قرناً على ميلاد النبي ﷺ ومقاصد رسالته في تحرير الإنسان (2)

استكمالًا لما بدأناه في استعراض الأسس
التي قامت عليها رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد أن تناولنا كيف رسم
دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام معالم المنهج، ننتقل الآن إلى دستور المقاصد
الأسمى الذي جاء به القرآن الكريم، في آية جامعة من سورة «الأعراف»، يحدد الله
تعالى جوهر بعثة النبي الخاتم، مقدمًا للعالم مشروعًا متكاملًا لتحرير الإنسان
وبناء الحضارة.
ثالثًا: المقاصد الجامعة في آية «الأعراف»:
إذا كان دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام
قد رسم معالم المنهج الذي ستقوم عليه الرسالة الخاتمة، فإنَّ القرآن قد جاء ببيانٍ
أوفى وأشمل في آية جامعة تُعَدُّ بمثابة «دستور المقاصد النبوية»، وهي قوله تعالى:
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف:
157).
هذه الآية العظيمة لا تقتصر على وصف
النبي صلى الله عليه وسلم، بل تسرد مقاصد بعثته في 6 معالم كبرى، كل واحدٍ منها
يمثل وجهًا من وجوه التحرير الإنساني، ويصبّ في صناعة الإنسان الحرّ الكريم.
1- الأمر بالمعروف.. تحرير المجتمع بالفضيلة:
المعروف هو ما استقرَّ في الفطر السليمة
من الخير والعدل والرحمة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم وظيفته أن يوقظ ضمير
المجتمع بهذه القيم، يذكّرهم بالحق، ويدعوهم للعدل، ويغرس فيهم الرحمة، فهذا مقصدٌ
من مقاصد التحرير؛ ألا يبقى الخير حبيس النفوس، بل يصير نظامًا جماعيًا يُصلح المجتمع
ويُوجّه حركته.
2- النهي عن المنكر.. حماية الإنسان من الانحراف:
المنكر هو كل ما أنكرته الفطر ورفضته
العقول السليمة، فجاءت الرسالة لتحمي الإنسان من الانزلاق إلى مهاوي الظلم
والفساد، وتنقذه من العادات المدمّرة والأهواء الجارفة، بهذا صار النهي عن المنكر
آليةً لتحرير الإنسان من عبودية الشهوة والأنظمة الجائرة، وصونًا له من الانحطاط
الخُلقي والاجتماعي.
3- إحلال الطيّبات.. توسيع أفق الحرية:
جاءت الرسالة لتُحلّ للناس الطيّبات التي
ضيّقتها الأديان المحرّفة أو كبّلتها الأعراف الظالمة، فهي تحرير لحياة الناس من
القيود المصطنعة التي حرمتهم من نعم الله، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ
الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف: 32)،
فالتحليل هنا ليس مجرد إباحة، بل هو تحرير لمجال الحياة ليكون فسيحًا طيبًا، يعيش
فيه الإنسان بلا حرجٍ ولا تضييق.
4- تحريم الخبائث.. صيانة الحرية من الانفلات:
كما أطلق الإسلام الحرية بالطيبات، فقد
قيدها بحظر الخبائث، فالتحريم هنا ليس تقييدًا للإنسان، بل حمايةٌ له من السقوط فيما
يُفسد جسده وروحه وعقله ومجتمعه، فهي حريةٌ مؤطرة بالقيم، تضمن للإنسان أن يعيش
نقيًّا مصونًا، فلا تتحول الحرية إلى فوضى تدمّر إنسانيته.
5- رفع الإصر.. التحرير من الأثقال المحرَّفة:
الإصر هو التكاليف المشدّدة التي فُرضت
على الأمم السابقة عقوبةً لهم أو انحرافًا في شريعتهم، فجاء النبي صلى الله عليه
وسلم ليخفّف عن أمته، ويجعل شريعتها وسطًا بين الغلوّ والتفريط، وهذا مقصد من
مقاصد التحرير؛ ألا تكون التكاليف حجر عثرة في سبيل الإنسان، بل سلّمًا يرفعه إلى
الكمال.
6- إزالة الأغلال.. التحرير من القيود الاجتماعية والسياسية:
الأغلال هي القيود التي كبّلت الأمم
بالاستبداد والظلم، أو بالتحريف الديني، أو بالعادات الجائرة التي أحلها الناس محل
الوحي الشريف، واتخذوها دينًا من دون التشريع؛ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم
ليكسر هذه السلاسل، ويمنح الناس كرامتهم وحرّيتهم، فلا يَدينون إلا لله، ولا
يخضعون إلا لسلطان الحق، وهنا يتجلّى لبّ الرسالة: الحرية الشاملة، التي تعيد
للإنسان إنسانيته.
إن هذه المقاصد الستة تجتمع على محورٍ
واحد هو إطلاق الحرية المسؤولة؛ حريةً تُبنى على المعروف، تُصان من المنكر،
تُثريها الطيبات، تُطهّرها من الخبائث، تُخفّف عنها الأثقال، وتُحطّم عنها القيود،
فآية الأعراف قدّمت الدستور الجامع لمشروع محمد صلى الله عليه وسلم، مشروعٍ هدفه
الأسمى أن يعيش الإنسان حرًّا كريمًا، عبدًا لله وحده، سيدًا في دنياه، معمِّرًا
لها بالعدل والرحمة.
رابعًا: الأثر الحضاري المتجدِّد:
إن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لم
تكن مجرّد دعوة أخلاقية أو منظومة وعظية، بل تحوّلت منذ لحظتها الأولى إلى مشروع
حضاري شامل، جمع بين بناء الإنسان وتشييد العمران، فأنتج نموذجًا فريدًا لا يزال
أثره ممتدًّا إلى يوم الناس هذا.
لقد أسّس صلى الله عليه وسلم في المدينة
المنوّرة نواة مجتمع جديد يقوم على العدل والشورى والتكافل، وكان المسجد قلبه
النابض؛ مكانًا للعبادة، ومنبرًا للعلم، ومركزًا للقرار السياسي، ومظلةً للتماسك
الاجتماعي، ومن خلال «صحيفة المدينة» التي عدّها الباحثون أوّل دستور مدني شامل، وضع
أسس التعايش بين المسلمين وأهل الملل الأخرى، على قاعدة المساواة في الحقوق، وصون
الدماء، وحماية الحرية الدينية، وهكذا لم تكن الحرية شعارًا مجرّدًا، بل ممارسة
واقعية تُصاغ في وثائق ملزمة وتُترجم في واقع معيش.
ثم انطلقت من هذا الأساس حضارة الإسلام
التي امتدت شرقًا وغربًا، فشيّدت المدارس والجامعات والمكتبات، وأطلقت قوى البحث
والاكتشاف، وقدّمت للعالم نموذجًا متقدّمًا في الفكر والسياسة والاقتصاد
والاجتماع، كان مقصدها الدائم تحرير الإنسان من قيود الجهل والظلم، وتمكينه من
استثمار عقله وروحه في عمارة الأرض، فالعلم فيها عبادة، والعدل فيها قيمة عليا،
والرحمة فيها أساس المعاملة.
واللافت للنظر أنّ هذه الحضارة لم تُنتج
عبيدًا للسلطة ولا أتباعًا للمصالح، بل ربّت أجيالًا من العلماء والفقهاء
والمصلحين الذين حملوا مشعل الهداية، وأسّسوا تقاليد راسخة في النقد والاجتهاد
والتجديد، وكل ذلك انعكاس لمقصدٍ أصيلٍ من مقاصد الرسالة النبوية؛ أن تظلّ الحرية
وقودًا للحضارة، والكرامةُ أساسًا للعمران، والتزكيةُ روحًا للحياة.
إن العالم اليوم، في خضمّ أزماته الروحية
واستلابه للماديات، لا يزال بحاجة إلى أن يتلمّس هذا الأثر النبوي المتجدد، وأن
يتعلّم من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم أنّ الحرية الحقيقية ليست انفلاتًا، بل
التزامًا بالحق، وليست عبثًا، بل مسؤولية، وأنّ الحضارة لا تقوم على سلطان الحديد
والنار، بل على سلطان القيم والعدل والرحمة.
إن ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم لم
يكن بداية رجلٍ عاش ثم مضى، بل كان انطلاق مشروعٍ حضاريٍّ خالد تجلى في بناء مجتمع
المدينة، ثم امتدّ في صفحات الحضارة الإسلامية التي لا تزال تنبض إلى اليوم، إنه
الأثر المتجدّد للرسالة الخاتمة: تحريرٌ للإنسان، وتزكيةٌ للروح، وبناءٌ للعمران،
وهدايةٌ للبشرية في مسيرتها الحائرة.
هكذا يتبيَّن لنا أنّ ميلاد النبي محمد صلى
الله عليه وسلم لم يكن حادثًا عابرًا في سجلّ التاريخ، بل كان انعطافة كبرى غيَّرت
مسار البشرية بأسرها، لقد جاء صلى الله عليه وسلم ليضع الإنسان في موضعه اللائق؛
مكرَّمًا بالعقل، حرًّا بالإيمان، مسؤولًا بالرسالة، كانت بعثته استجابةً لدعاء
الخليل إبراهيم، وتصديقًا لبشارة المسيح عيسى، وخاتمةً لسلسلة النبوات كلّها،
وجوهرها جميعًا تحرير الإنسان من عبودية البشر إلى عبودية الله وحده، ومن أغلال
الجهل إلى أنوار العلم، ومن سطوة الهوى إلى سكينة التزكية.
لقد رأينا في مقاصد دعوته كيف جعل
التلاوة والعلم والحكمة والتزكية ركائز لصناعة إنسانٍ جديد، وكيف لخّصت آية
الأعراف رسالته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتحليل والتحريم، ورفع
الأصر والأغلال؛ وكلّها تصبّ في نهرٍ واحد هو نهر الحرية المسؤولة، الحرية التي
تصون الكرامة ولا تهدرها، وتبني الحضارة ولا تهدمها.
ثم تجسّد ذلك في الأثر الحضاري الممتد،
منذ مجتمع المدينة الذي بُني على العدل والتعايش والشورى، إلى حضارةٍ عريضةٍ أضاءت
العالم بالعلم والفكر والفنون، ولا تزال الإنسانية تتفيأ بظلالها، وتنهل من
معينها.
واليوم، بعد 15 قرنًا على ميلاده
المبارك، يظلّ صوته صلى الله عليه وسلم يصدح في ضمير العالم؛ ألا أيها إنسان تحرّر
لتكون إنسانًا، تحرّر من عبودية الشهوات إلى سموّ الروح، ومن قهر الاستبداد إلى
عدل الشريعة، ومن غياهب الجهل إلى نور العلم والحكمة، ومن أوهاق الظلم إلى آفاق العدل،
تلك هي البشارة التي حملها، وذلك هو المشروع الذي تركه، وذلك هو الأثر الذي سيظل
ممتدًّا ما دامت السماوات والأرض.