‏5 شروط لعقد الاتفاقيات السياسية مع غير المسلمين

أورد ابن هشام في السيرة النبوية أنه في آخر سنة 6هـ وقع «صلح الحديبية»، حيث أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ شَهْرَ رَمَضَانَ وَشَوَّالًا، وَخَرَجَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مُعْتَمِرًا، لَا يُرِيدُ حَرْبًا.

وَاسْتَنْفَرَ الْعَرَبَ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي مِنْ الْأَعْرَابِ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ، وَهُوَ يَخْشَى مِنْ قُرَيْشٍ الَّذِي صَنَعُوا، أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِحَرْبِ أَوْ يَصُدُّوهُ عَنْ الْبَيْتِ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَعْرَابِ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنْ الْعَرَبِ، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ لِيَأْمَنَ النَّاسُ مِنْ حَرْبِهِ، وَلِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ إنَّمَا خَرَجَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ وَمُعَظِّمًا لَهُ.

وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كُنَّا أَصْحَابَ الْحُدَيْبِيَةِ أَربع عشرَة مائَة.

لكن قريشاً رفضت دخول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، ووقعت بعض الأحداث التي انتهت بالصلح، وأرسلت قريش سُهَيْل بْن عَمْرٍو إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتَكَلَّمَ فَأَطَالَ الْكَلَامَ، وَتَرَاجَعَا، ثُمَّ جَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ.

قال ابن هشام: فَلَمَّا الْتَأَمَ الْأَمْرُ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْكِتَابُ، وَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ بِرَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَوَ لَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَوَ لَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطَى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ، الْزَمْ غَرْزَهُ، فَأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ.

ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْتَ بِرَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: «بَلَى»، قَالَ: أَوَ لَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: «بَلَى»، قَالَ: أَوَ لَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: «بَلَى»، قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطَى الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ قَالَ: «أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي».

قَالَ: فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: مَا زِلْتُ أَتَصَدَّقُ وَأَصُومُ وَأُصَلِّي وَأُعْتِقُ، مِنْ الَّذِي صَنَعْتُ يَوْمَئِذٍ! مَخَافَةَ كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ، حَتَّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا.

في هذا الموقف دليل على مشروعية عقد الاتفاقيات السياسية مع غير المسلمين، وكذلك ما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر من مكة إلى المدينة المنورة، وكانت فيها قبائل اليهود، فعقد النبي صلى الله عليه وسلم معهم اتفاقاً وعقداً لحماية المدينة، وهو ما عرف في السيرة النبوية باسم وثيقة المدينة.

والناظر في هذه الاتفاقيات يدرك مشروعيتها، لكن بشروط، منها:

1- تحقيق مصلحة معتبرة شرعًا:

لا يقر الإسلام اتفاقية بين المسلمين وغيرهم لا يترتب عليها تحقيق مصلحة حقيقية للمسلمين، وتتنوع هذه المصالح، حيث تشمل حفظ دمائهم، وتقوية اقتصادهم، ومنع الضرر الواقع عليهم، وفتح أبواب الدعوة أمامهم.

2- عدم التنازل عن الثوابت الشرعية:

يقيم المسلمون الاتفاقيات السياسية مع غيرهم ما لم يكن فيها أو يترتب عليها تنازل أو تهاون في ثوابت الدين الإسلامي، سواء كانت عقدية أم تشريعية أم أخلاقية، وكذلك لا تخدش هذه الاتفاقيات شرف الأمة وكرامتها، كما لا تضيع حقوق أبنائها.

3- عدم المساهمة في ظلم أو إهانة الشعوب:

لم يمنع الإسلام التعاون مع غير المسلمين، والاتفاق معهم فيما يعود بالنفع على الجميع، ما لم يكن في هذا الاتفاق أو الميثاق ظلم أو إهانة للناس، فلا يجوز الاتفاق على إيقاع أذى بأحد من غير سبب، كما لا يجوز أن يكون في الاتفاق تنازل عن جزء من أرض المسلمين، أو تفويت حقوقهم، أو إضعاف شوكتهم، أو نهب أموالهم، أو هدم للحضارة الإسلامية.

4- عدم الولاء أو الذوبان:

إذا كان الإسلام قد أباح التعامل مع غير المسلمين والتعاون معهم فيما يحقق مصالح المسلمين؛ فإنه نهى عن الولاء والتبعية العمياء، كما نهى عن الذوبان فيهم، واتخاذهم أولياء من دون المؤمنين، حيث قال تعالى: (‌لَا ‌يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران: 28)، وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ ‌أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) (النساء: 144)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ‌أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ ‌أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة: 51).

5- حفظ الكرامة الإسلامية:

لا ينبغي أن يعقد المسلمون صفقات سياسية أو اتفاقيات دولية من منطلق الضعف والإذلال، بل من منطلق الاحترام المتبادل، والمصالح المتحققة، أما الإذلال والانتقاص فإن الإسلام لم يرض للمسلم أن يقع فيه، قال تعالى: (‌وَلَا ‌تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139)، وقال عز وجل: (‌وَلَا ‌تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء: 104).


كلمات دلالية

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة