5 مواقف نبوية جمعت بين الذكاء السياسي والثبات على المبدأ

أراد الله عز وجل أن يُظهِر سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم قدرة فائقة
على الجمع بين المرونة السياسية والثبات على المبادئ الإسلامية، حتى يكون مثالاً
يحتذى في الثبات على المبادئ الإسلامية، والقدرة على تحقيق النجاحات السياسية، دون
أن يقع بينهما تعارض أو تصادم.
وقد حملت إلينا السيرة النبوية عدداً من المواقف المؤكدة على ذلك، منها ما
يأتي:
1- هجرة الحبشة:
كان من توفيق الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن أرسل الصحابة إلى
الحبشة حين اشتد بهم أذى قريش، وقد تجلت معالم الذكاء السياسي مع الثبات على
المبدأ في هذه الهجرة، حيث يظهر الذكاء في حسن قراءته صلى الله عليه وسلم للمشهد
الدولي العام، فالنجاشي رغم أنه نصراني فإنه ملك عادل، لا يظلم عنده أحد، وهذه
بيئة آمنة للصحابة الكرام، فالنجاشي وإن لم يؤمن برسالتهم فلن يظلمهم ولن يسمح
بظلمهم.
أما الثبات على المبدأ في هجرة الحبشة فيظهر في حماية الصحابة من الذوبان
في دين النجاشي، بل التمسك بدينهم والإصرار عليه، والقدرة على الدعوة إليه، مع أن
ذلك كاد أن يكلفهم حياتهم.
2- صلح الحديبية:
ظهر الذكاء السياسي للنبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، حيث وافق
ببعض الشروط التي يوهم ظاهرها الضعف أو حدوث التراجع أو التنازل عن بعض الأشياء،
مثل الموافقة على تأجيل دخول مكة في ذلك العام، وعدم استقبال المؤمنين من أهل مكة
في المدينة، وشطب كلمة «رسول الله» من المكتوب في الوثيقة، وكان كل هذا لأجل مصلحة
أكبر ورؤية أوسع للنبي صلى الله عليه وسلم.
أما الثبات على المبدأ في صلح الحديبية فيظهر في عدم التنازل عن العقيدة
ولا إقرار الشرك، بل الصبر واليقين بأن الله ناصر دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
3- موقفه من زعيم المنافقين:
كان من الذكاء السياسي للنبي صلى الله عليه وسلم أن أحسن التعامل مع رأس
النفاق في المدينة، وهو عبدالله بن أبي بن سلول، حيث لم يعاقبه أو يقتله صلى الله
عليه وسلم رغم علمه بنفاقه، ويقينه بأنه يسبه ويحرض الناس عليه، إلا أنه صلى الله
عليه وسلم رفض معاقبته؛ حفاظاً على وحدة الصف، وتجنباً لحدوث الفتنة في المدينة.
ويدل على ذلك ما رواه البخاري، ومسلم، في صحيحيهما، عن جَابِر بْن عَبْدِ
اللهِ قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا
مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ
الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمِعَ ذَاكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا بَالُ دَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ»! قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ
الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»، فَسَمِعَ بِذَلِكَ
عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: فَعَلُوهَا، أَمَا وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا
إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَبَلَغَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ
أَصْحَابَهُ».
أما ثباته صلى الله عليه وسلم على المبدأ في موقفه من عبدالله بن أبي فيظهر
في حرصه صلى الله عليه وسلم على فضح النفاق وبيان صفات المنافقين، فهو لم يهادنهم
في الدين ولم يمكنهم منه، كما يظهر الثبات هنا في الإصرار على حماية المدينة من
الصراع الداخلي والاقتتال الأهلي بسبب اختلاف الأفكار أو الأديان.
4- التعامل مع الوفود:
كشف التعامل مع الوفود عن ذكاء خارق للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث حرص على
استقبال الوفود في المدينة، بل في المسجد النبوي الشريف، وسمح لهم بالمكث فيه،
وأجرى معهم الحوارات، وأكرم وفادتهم، وقدم لهم الهدايا، وأسهم في حل بعض مشكلاتهم،
كما استخدم لغة دبلوماسية تتناسب مع طباع كل قبيلة؛ ما عزز مكانة المدينة كمركز
سياسي وديني.
أما الثبات على المبدأ في التعامل مع الوفود فقد تجلى في رفض الاعتراف
بعقيدة التثليث التي تحدث فيها وفد نصارى نجران، حيث قرأ عليهم آيات سورة «آل
عمران» الواضحة، وثبت على التوحيد دون أن يُساير أو يُجامل في العقيدة، كما لم
يتنازل صلى الله عليه وسلم عن أي مبدأ إسلامي، بل اشترط على الوفود الالتزام
بالإسلام وأحكامه، مثل الزكاة والصلاة، ورفض أي طلب يتعارض مع العقيدة.
ويدل على جزء من ذلك ما رواه أحمد في مسنده عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي
الْعَاصِ، أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَهُمُ الْمَسْجِدَ لِيَكُونَ أَرَقَّ لِقُلُوبِهِمْ،
فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا
يُحْشَرُوا، وَلَا يُعْشَرُوا، وَلَا يُجَبُّوا، وَلَا يُسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ
غَيْرُهُمْ، قَالَ: فَقَالَ: «إِنَّ لَكُمْ أَنْ لَا تُحْشَرُوا، وَلَا
تُعْشَرُوا، وَلَا يُسْتَعْمَلَ عَلَيْكُمْ غَيْرُكُمْ»، وَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا رُكُوعَ فِيهِ»، وكانت
نتيجة ذلك أن دخلت قبيلة ثقيف في الإسلام، وأصبحت من القبائل المؤثرة في نشر
الدعوة الإسلامية.
5- فتح مكة:
بعد خرق قريش لصلح الحديبية، تحرك النبي صلى الله عليه وسلم سرًا بجيش
قوامه 10 آلاف مقاتل، مستفيداً من عنصر المفاجأة، وهذا ذكاء سياسي منه صلى الله
عليه وسلم، كما أمر بإشعال النيران في المخيمات لإظهار قوة المسلمين؛ ما دفع قريش
إلى الاستسلام دون قتال يُذكر، وهذا أيضاً مظهر من مظاهر الذكاء السياسي.
أما الثبات على المبدأ في فتح مكة فيظهر عند دخول مكة، حيث أعلن النبي صلى
الله عليه وسلم العفو العام قائلاً: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، معاقبًا فقط عددًا
قليلاً ممن ارتكبوا جرائم بحق المسلمين، هذا العفو يعكس مبدأ الرحمة والعدل
الإسلامي، حيث لم ينتقم رغم قدرته على ذلك، بل دعا إلى الوحدة ونشر الإسلام، وكان
من نتائج ذلك أن تحولت مكة إلى مركز إسلامي، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.