‏5 وسائل للتربية على حب الشهادة في سبيل الله

لما قدم عمرو بن العاص لفتح مصر، أرسل المقوقس إليه رسالة يقول له فيها: إنكم قد ولجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم، وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا إلينا رجالاً منكم نسمع من كلامهم فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب وينقطع عنا وعنكم القتال.

فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت، وأمره أن يكون متكلم القوم.

فقال عبادة: يا هذا، لا تغرّنّ نفسك ولا أصحابك، أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، إن كان ما قلتم حقاً فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم وأشد لحرصنا عليهم، لأن ذلك أعذر لنا عند الله إذا قدمنا عليه إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا من رضوانه وجنته، وما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك، وإنّا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين؛ إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحاً ومساء أن يرزقه الشهادة وألا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا هم فيما خلفه وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده وإنما همنا ما أمامنا(1).

وهذا هو عين حب المسلمين للشهادة أكثر من الحياة، فهذا ليس مجرد كلام للتعبئة الروحية؛ بل حقيقة واقعة ناتجة عن التربية الإسلامية للنفس الإنسانية، وفيما يأتي بيان أهم الوسائل التي ارتكزت عليها التربية الإسلامية في غرس حب الشهادة في نفوس المسلمين.

1- التربية على التعلق بالآخرة وعدم التعلق بالدنيا:

غرس الإسلام في نفوس أتباعه حب الشهادة في سبيل الله، من خلال تزهيدهم في الدنيا، وتفضيل الآخرة عليها، حيث قال تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {16} وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى)، وقال عز وجل: (وَلَلْآخِرَةُ ‌خَيْرٌ ‌لَكَ ‌مِنَ الْأُولَى) (الضحى: 4).

وروى مسلم في حديث غزوة «بدر»، حين دنا المشركون من «بدر»، قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ»، قَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟»، قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا»، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ، إِنَّهَا ‌لَحَيَاةٌ ‌طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.

2- بيان فضل الشهادة ومنزلة الشهيد:

قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ ‌اشْتَرَى ‌مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 111)، وقال عز وجل: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ‌لَهُمْ ‌أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) (الحديد: 19)، فالشهيد يدخل الجنة والشهادة بوابته إليها.

وروى أحمد، وابن ماجة، عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يَغْفِرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دُفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ، وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ، وَيُزَوَّجُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ، ‌وَيُشَفَّعُ ‌فِي ‌سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ».

3- التأكيد على تخفيف ألم الموت على الشهيد:

معلوم أن ألم الموت شديد وسكراته عظيمه، ويدل على ذلك ما رواه الطبراني عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم عند موته اتخذ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِيهَا، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهَا وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ‌إِنَّ ‌لِلْمَوْتِ ‌لَسَكَرَاتٍ».

وعندما أراد الإسلام أن يغرس في نفوس أتباعه حب الشهادة في سبيل الله بين أن الشهيد يخفف عنه هذا الألم، فلا يجد منه إلا كما يجد أحدنا من مس القرصة.

ففي سنن الترمذي بسند حسنه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ القَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ ‌مِنْ ‌مَسِّ ‌القَرْصَةِ»، والقرصة هي عضة النملة أو الأخذ بأطراف الأصابع.

4- النبي يرجو أن يموت شهيداً:

رغّب الإسلام أتباعه في الشهادة وحببها إليهم من خلال النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أعلن حبه للشهادة ورغبته في الحصول عليها، ففي صحيح البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا من المؤمنين، لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده، لوددت أن أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ‌ثُمَّ ‌أُحْيَا، ‌ثُمَّ ‌أُقْتَلُ ‌ثُمَّ ‌أُحْيَا، ‌ثُمَّ ‌أُقْتَلُ ‌ثُمَّ ‌أُحْيَا، ‌ثُمَّ ‌أقتل».

5- مشاركة أسر الشهداء ومواساتهم مادياً ومعنوياً:

يعترف الإسلام بآلام فَقْد الشهيد داخل أسرته ولدى زوجته وأولاده، ولهذا أكد أن الشهادة تعود بالخير، لا على الشهيد وحده بل على أسرته أيضاً، فالشهيد يشفع في سبعين من أهله، كما سبق بيانه في حديث خصال الشهيد، ويضاف إلى ذلك أن أسرة الشهيد تحتاج إلى الدعم المعنوي والمادي، وقد حقق الإسلام ذلك، ففي الدعم المعنوي بين أن الشهيد في نعيم ما بعده نعيم، وفي هذا تسلية لذويه.

روى ابن ماجه عن جابر بن عبدالله، قال: لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَوْمَ أُحُدٍ، لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «يَا جَابِرُ، أَلَا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللَّهُ لِأَبِيكَ؟»، وَقَالَ يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ: «يَا جَابِرُ، ‌مَا ‌لِي ‌أَرَاكَ ‌مُنْكَسِرًا؟»، قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: «أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟»، قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ، تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169)».

وحث الإسلام على كفالة أسر الشهداء، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما استشهد جعفر بن أبي طالب أمهل النبي صلى الله عليه وسلم أهله ثلاثة أيام ثم ذهب إليهم وقال لهم: «لا تبكوا على أخي بعد اليوم»، ثم قال: «ادعوا إليَّ بني أخي»، وخاطبهم قائلاً: «أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبدالله فشبيه خَلقي وخُلقي»، ثم قال: «اللهم اخلف جعفراً في أهله، وبارك لعبدالله في صفقة يمينه»، ثم جاءت زوجة جعفر فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم يُتم أولادها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «العيلة (أي: الفقر) تخافين عليهم، أنا وليهم في الدنيا والآخرة»(2).





_______________________

(1) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: جمال الدين الحنفي، (1/ 10).

(2) البداية والنهاية (3/ 476).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة